موت الفلسطيني في زنازين إسرائيل ليس قدرًا - جواد بولس
نعى "نادي الأسير الفلسطيني" الشاب المعتقل ابن قرية "حوسان" من محافظة بيت لحم، عبدالرحمن سفيان السباتين، الذي استشهد فجر يوم الاربعاء الفائت في مستشفى "شعري تصيدق" (بوابات العدل !) الاسرائيلي. ووفقًا للبيان فإن قوات أمن الاحتلال قامت باعتقال الشهيد السباتين بتاريخ 24/6/2025، وعقدت له جلسة بتاريخ 24/11/2025 في محكمة عوفر العسكرية بحضور محاميه وأحد أفراد عائلته. لم يُحضَر الأسير الى قاعة المحكمة، بل شارك في جلسته من خلال شاشة فيديو مثبتة في السجن؛ فمنذ السابع من اكتوبر 2023، توقفت "مصلحة سجون الاحتلال" عن نقل الأسرى الفلسطينيين إلى قاعات المحاكم ليمثلوا بأنفسهم أمام القضاة، واستعاضت عن ذلك بعرضهم على القضاة عن بعد، من خلال شاشات فيديو يتحكم بها السجانون ويستغلونها لإذلال الأسرى وترهيبهم، وفق ما جاء في شهادات العشرات الذين مروا بتلك التجربة.
ولقد نقل على لسان العائلة بأنه خلال جلسة المحكمة لم تظهر على ابنهم أي علامات صحية مقلقة، فبدا، من الدقائق القليلة التي ظهر خلالها على الشاشة في وضع "طبيعي". كما يظهر من بروتوكول الجلسة أن محامي الأسير لفت عناية القاضي الى أن الأسير يشكو من مشاكل في عينيه ومعدته ويطلب عرضه على الطبيب لتلقي العلاج المناسب. رفع القاضي الجلسة وعين واحدة أخرى بتاريخ 13/1/2026، كاتبًا: "ترسل نسخة عن هذا البروتوكول الى الجهات الطبية ولضابط الأسرى في سجن عوفر، كي ينظروا في طلب المتهم وفحصه من قبل طبيب".
لم يشرح أحد للعائلة كيف ولماذا استشهد ابنهم؛ فكل ما استلموه كان عبارة عن رسالة شفوية لم تتعد بضعة كلمات علمتهم ما الفرق بين "مكارم القدر" وأحكام العجز والعدم. لم أقرأ في الأخبار عن سقوط الأسير عبد الرحمن الا بضعة سطور متفرقة، تقل عما نشر في الاعلام العربي عن خلاف مغنية مع طليقها، أو عن قيمة الفستان الذي ظهرت به ممثلة في "مهرجان الجونة السينمائي" !
قرأت؛ حزنت وخشيت أن يصبح سقوط الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال حدثًا عاديًا أو قدرًا لا فكاك منه.
تتحمل مصلحة سجون الاحتلال كامل المسؤولية عن استشهاد الأسير عبد الرحمن السباتين، والمسؤولية عن جميع حالات استشهاد الأسرى الذين سقطوا في سجونها، وعددهم، وفق تقارير المؤسسات الحقوقية، بلغ منذ عام 1967, 322 شهيدًا، سجل من بينهم أكثر من 100 حالة استشهاد وقعت منذ الحرب الأخيرة على غزة. وقد أعلنت المؤسسات الحقوقية، وبضمنها مؤسسات اسرائيلية، عن معرفتها بهويات 85 شهيدا؛ فيما لا يزال العشرات من معتقلي غزة الشهداء مجهولي المصير وأمكنة الاستشهاد.
قد يخيّل للبعض أن الكتابة عن استشهاد أسير واحد في سجون الاحتلال، في هذا الأيام، تبدو غريبة، اذا ما قارنّاها بما يواجهه أهل قطاع غزة من قتل وتجويع وتهجير، أو اذا ما وضعناها في سياق الاعتداءات الوحشية على سكان المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية، وسقوط الشهداء وتدمير ممتلكاتهم وحقولهم وقلع زيتونهم وقتل قطعان مواشيهم.
كل موت في فلسطين له طعم ورائحة وقمر. فعندما يسقط الأسير يظن السجان الاسرائيلي بأنه قبض على روح حريته وعقّم سرمديتها الخالدة. فالأسرى، منذ يوم نضالهم الأول ضد الاحتلال الاسرائيلي، كانوا خط التماس الحي الذي لم يهدأ ولم يستسلم ولم يهادن. اختاروا الوقوف في وجه سجّانهم "كحاء" الحق "وقافه" المعقودة على أبراج السماء؛ وبنوا، خلال مسيرة طويلة من التضحيات، "كيانًا" توحدت حوله فلسطين، وذوّتت كنهه أجيال بعد أجيال كجزء من الذاكرة الوطنية الجمعية، وكأحد ركائز الهوية الفلسطينية النقية وكنبضات ناظمة لثنائية النضال والألم، مجدولة بثنائية الكرامة والأمل.
إن الكتابة عن استشهاد الأسرى داخل سجون الاحتلال ليست مجرد رثاء تفرضه العادة وتمليه التقاليد، بل هي مسؤولية اخلاقية ومهنية أولًا، وضرورة وطنية تؤكد على أن الحرية، التي ينشدها الفلسطيني، مهما تعثّرت أو ابتعدت، تظل هدفًا مقدسًا، يوصي به أولئك الذين يرحلون على "مراكب السماء" وينتظرون على "برازخ الخلاص" .
اكتب اليوم عن شهيد قرية "حوسان" وشريط من الذكريات يعيدني الى شوارع القرية وأراضيها، التي شهدتُ عليها قبل عقود، وقفات أهلها في وجه هجمات الاستيطان وقدّموا، في سبيل الكرامة والبقاء، مئات الأسرى والشهداء.
ليس في "حوسان" وحدها يستعيد التاريخ لون دماء أبنائه وأحلامهم؛ ففي كل مرة يسقط أسير في الزنازين تحضر مأساة الفلسطيني بعبثية كثافتها، وينطق جرحها من وراء جدران يخترقها أنين أسطوري وأرواح تنطلق سهامًا من نار ووعودا من أثير لتنام في أحضان الزمن.
أكتب عن الذين يرتقون وهم يتأبطون أنفاس شموس بعيدة؛ وأحس بوجع عائلاتهم وحسراتهم؛ أتذكر أمهاتهم وهن يترقبن طلوع الفجر فتنقبض قلوبهن حين يسيل من جفونه باكيا الندى. والأباء تنفطر قلوبهم ولا يبكون انصياعا لما أوصاهم به"حياء الرجال" وحذرتهم منه "وعود السماء". أكتب وفي أذناي يتردد نحيب الأولاد صامتا. بعضهم يقفون على عتبات طفولة راحلة، بسرعة شهقة، ليفيقوا فوارس غد ملتبس ومشاريع شهادات مؤجلة. أكتب عن الذين رحلوا وتركوا وصاياهم مزروعة في شقوق المدى ورودا، ومشكوكة على خصور الوطن، ضمما من حب وجوى.
كل موت فلسطيني يحمل معه معناه المغاير، ويستحضر حكمة قصية لسيد القدر. موت الأسير في زنزانته، في هذه الأيام، لا يشبه موته في ساحة المعركة أو على "دروب الطحين" أو في الحقل أو في المدرسة. ولا هو مثل موت الحر في سجون "الأشقاء" أو داخل قواقع حكام مستبدين، أو موته دفاعا عن "شرف بنات العرب". موت الأسير الفلسطيني، منذ أن ولدت "غريزة الوحش" واستقوت على أنفاس "ابن الانسان"، كان يشبه ذلك الموت كله ويفوقه معنىً. هو موته/مَهره المسفوك من أجل حرية شعبه وتحرير أرضه. هكذا كان معنى أن يموت "الفتى" وهو فلسطيني الهوية والديانة والهوى؛ أما اليوم فقد صار موته، هكذا يقول لي حدسي وتنبئني به الرياح، غصة يتيمة ومجرد حادثة تتحرش بالمستحيل.
ما يحدث في سجون الاحتلال هو انفلات الشر المطلق الذي بات يهدّد حيوات 9300 أسيرة وأسيرٍ فلسطينيين. لقد أصبحت سياسات القتل والتعذيب والتجويع والاهمال الطبي فصولا معتمدة في منهاج قمع الأسرى لا مجرد حوادث استثنائية "وأخطاء فردية" كما كانت تدّعي في الماضي سلطات الاحتلال.
موت الأسير الفلسطيني داخل السجون يكشف عورات الجناة كلهم كما لا يكشفه أي موت آخر. فهنا حول هذا الموت يجتمع جميع الجناة وعناصر منظومة الشر. بداية، أفراد أجهزة الأمن والجنود منفّذي الاعتقال ثم السجانين والمحققين الذين "جدّوا واجتهدوا " على تحطيم معنويات الأسير. ومعهم الأطباء والممرضون العاملون في مصلحة السجون، ومثلهم أطباء المستشفيات المدنية الذين عاينوا الأسير وتواطؤوا مع منفذي الجرائم. ولن ننسى القضاة والمدّعين العسكريين الذين يسمعون شكاوى الأسرى ومحاميهم ويعاملونها بنمطية الشركاء بالجريمة ومبيّضي صفحتها. جميع هؤلاء شركاء بالجريمة ومثلهم جميع المؤسسات الحقوقية التي لا تقف الى جانب ضحايا الاحتلال، وفي مقدمتها نقابة المحامين وقضاة المحاكم المدنية، لا سيما قضاة المحكمة العليا الذين ساعدوا على اختمار مشهد الرعب والقتل الذي تعيشه الحركة الأسيرة.
ما يحدث في السجون الاسرائيلية ليس شأنا فلسطينيا وحسب، بل هو اختبار لانسانية هذا العالم. فإن كان القانون والمجتمع الدوليان عاجزين عن تأمين أبسط حقوق الأسرى، حقهم بالحياة، وإن كانت العدالة معلقة على المشانق أمام أبواب الزنازين، فلعل أبسط ما يمكن أن نفعله هو ألا نسمح لموتهم بأن يتحول إلى خبر عادي أو عابر . إن أضعف الايمان، إذن، أن نكتب عنهم، عسى أن يصحو ضميرٌ ما في مكان ما ويسمع باسمائهم وبقصص سقوطهم، وآخرهم الشهيد عبدالرحمن سفيان سباتين.

