فلسطين على أعتاب انتفاضة جديدة - جواد بولس
سيحلّ غدا، التاسع والعشرون من نوفمبر، يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني؛ وهو اليوم الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة لتبقى قضية فلسطين ماثلة على خارطة القلق الدولي وهاجسًا يستحضر ذكرى احدى كبريات المظالم التي وقعت بحق شعب في العصر الحديث.
لم يكن اختيار يوم التاسع والعشرين من نوفمبر عشوائيا، بل لأنه اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة نفسها عام 1947 القرار رقم 181 المعروف باسم "قرار التقسيم"؛ وقضت بتقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين: دولة يهودية ودولة عربية مع وضع القدس تحت نظام دولي خاص.
في هذا اليوم يشعر معظم الفلسطينيين بالأسى وبخيبة الأمل؛ ويتذكرون حجم المؤامرة التي حيكت ضدهم وأدّت إلى نكبتهم التي ما زالت، رغم مر السنين، تعيد انتاج افرازاتها المؤلمة دومًا والمروّعة أحيانًا، كما حدث ويحدث في العامين الأخيرين في غزة بشكل أساسي، وفي الضفة الغربية المحتلة أيضا.
تنهال في هذه المناسبة الأسئلة وتفيض التساؤلات؛ وبعضها يستعيد أحكام الندامة في علم السياسة وعواقب سوء تقدير الأحوال والاحتمالات، وبعضها يتيه على عتبات "الاخوة الأعداء" وعلى منابر النفاق وفي مقابر الأخلاق.
أتيت من الجليل الى القدس قبل خمسين عامًا ونيف. كانت تلك "قدس" فلسطين، تميمة الشعراء وحصن "المريمات" وخنجر فرسان العرب. وكنا، حين نذرع شوارعها، نسمع تناهيد التاريخ حتى ينام الفجر على أجفاننا ويرقص في صدورنا القمر. خمسون عامًا كنت فيها شاهدًا على كيف كانت الأحلام تزهر في حواريها حتى تضج فضاءات فلسطين بنبض ياسمينها وبأجنحة النسور وبتهاليل الأمل. خمسون خلت وصرتُ شاهدا على القدس وهي تهوي مثل سائر أخواتها، ومثلهن تداري جراحاتها بالدعاء وبالشعار ويهجر ساحاتها الفرح ويستوطنها الخوف والقلق .
الحديث عمّا أصاب القدس، وأخواتها طبعا، يطول فلا تسعُه هذه العجالة؛ فتلك القدس التي عصيت على الغازين، أو هكذا يبدو، خذلت فتعبت وتاهت. قد تبدو أوضاع أهلها للناظرين من بعيد أفضل من أوضاع اخوانهم في الضفة الغربية، لكنهم في الواقع يواجهون قمعَ الاحتلال يوميا وحصارا مقيتا ومخططا استيطانيا واستعماريا يستهدف تهجيرهم والقضاء على هويتهم الفلسطينية والسيطرة على جميع مرافق حياتهم. "خطة الحسم" التي تنفذها حكومة اسرائيل الحالية في غزة وفي الضفة الغربية المحتلة لا تستثني القدس، فالمدينة قُطّعت أوصالها وأخضعت لهيمنة اسرائيلية كاملة ويجري "ترويض" أهلها وفق سياسات عنصرية وقوانين احتلالية جائرة وأنظمة وضعت لتضمنها مدينة التوراة اليهودية، لا تقبل اقتسامها مع آخرين ولا الشراكة في "هيكلها".
فلسطين تواجه محنتها الكبرى والفلسطينيون ينامون على "ظبات سيوفهم" ويصحون على بكاء زيتونهم وعلى حسيس النار وزفيرها وهي تحرق كرومهم وبيوتهم. فهل سيدوم "رقادهم" في أحضان "قيصر" ؟ تبدو الاجابة على هذا التساؤل سهلة وحاضرة؛ فجميع المعطيات تؤيد أن الهبة قادمة لا محالة، خاصة بعد الذي جرى لغزة واتضاح معالم مخططات الحكومة الاسرائيلية وأهدافها الحقيقية. هي خطة حسم واحدة هدفها فلسطين، كل فلسطين، وعنوانها أهل فلسطين، جميع أهل فلسطين، فغزة أولا وبعدها "رام الله" وما بعد بعد رام الله. فهل ستندلع انتفاضة الخلاص ومتى؟
ليس من الصعب على من يتابع أخبار القدس والضفة أن يستشعر مجموعة العوامل التي تنذر بأن الانفجار قريب: انسداد آفاق الحلول السلمية وتشديد الحصارات على مدن وقرى الضفة الغربية، حتى غدا الانتقال من مدينة أو قرية الى مدينة أو قرية أخرى مهمة مستحيلة أو خطوة محفوفة بالخطر وحتى بالموت؛ تفاقم اعتداءات المستوطنين الدموية على المدن والقرى الفلسطينية والتنكيل بالمواطنين والتعرض لأراضيهم ولمحاصيلهم الزراعية ولقطعان مواشيهم؛ تصعيد حملات الاعتقالات التعسفية وما يصاحبها من اقتحامات وحشية للبيوت والاعتداء بالضرب على سكانها وعلى من يؤسر ويجر لمعسكرات التعذيب والاعتقال؛ استحداث وسائل ترهيب جديدة بحق المواطنين وملاحقتهم وحرمانهم من حقوقهم الأساسية اليومية وفي طليعتها الحق بالحياة الآمنة وحرية التنقل وحرية الرأي والتعبير وحرية التعليم وحرية العبادة وغيرها من الممارسات التي أصبحت تُعرّض من يقوم بها لخطر القتل أو الاعتقال والتعذيب؛ اشتداد حالات الفقر والبطالة حتى باتت شرائح سكانية كاملة تعيش على حافة الاملاق والعوز.
يمكنني أن أضيف المزيد من هذه "المهاميز" التي تنقر على أجساد الفلسطينيين الدامية وتذكّرهم بأن أحوالهم وصلت حدًّا من العبث الأسطوري ومن الذل والمهانة التي لا يرضى بها حر وحرة ولا شعب تعمّد "بماء السماء" وحمل الصبر و"صليبه" وكافح لأكثر من مائة عام ولُدغ مرة من جحر حفَرَه الأعداء بمعاول الأخوة والأصدقاء، ومرة من جهله ومرة من حماقات "حُماته" ومغامراتهم في ساحات الوهم والسراب. فهل تعيش فلسطين المحتلة هذه الأيام مخاضات صدام دامٍ وخطير ؟
قد يحدث الانفجار في لحظة تجلٍّ تاريخية غير محسوبة ولا مخططة؛ فالتاريخ علمنا، في فلسطين أيضا، أن بعض أحداثه الكبرى اشتعلت في أعقاب حادثة هامشية أو سخيفة أو عارضة، كانت عند حدوثها "كالخميرة السحرية" التي تسكب في عروق جسد متهالك فتحييه وتحوّله الى مارد مهيب ومقاوم عنيد. خلاف ذلك لا أرى من سيعلن عن بدء الانطلاقة؛ فالجسد الفلسطيني ممزق وتنهكه حالة الانقسام الكبرى بين حركة "حماس" وبين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وما يرافقها من انقسامات ثانوية داخل الفصائل ذاتها وأخطرها الحالة التي تعيشها حركة "فتح" وهي كبرى فصائل المقاومة وأبرزها تاريخيا. والأهم أن معظم هذه الفصائل والحركات قد فقدت قدرتها على اتخاذ قراراتها بشكل مستقل، وصار بعضها مرتبطا بقوى خارجية تعمل وفق مصالحها بغية تحقيقها لا لصالح القضية الفلسطينية ومستقبل شعبها. لا أرى اليوم من في فلسطين سينفض عن شعبه غبار العجز وقد تفشّت فيها حالة من التيه واليأس، وتفشى كذلك الخوف، وترك المواطنين بدون أحزمة أمان أو حماية أيا كانت.
تلقيت قبل أربعة أيام بيانا صادرا بتوقيع "القوى الوطنية والإسلامية- فلسطين" يتصدره شعار يعلن أن "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة" ، وهو عبارة عن "نداء اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني". يتضمن البيان ستة نقاط تؤكد على تثمين مواقف شعوب العالم والدول التي وقفت الى جانب حقوق الشعب الفلسطيني، ويؤكد كذلك على رفض جميع محاولات فصل قطاع غزة عن باقي الأراضي الفلسطينية ومحاولات تقسيم القطاع والتحكم بمصيره، ويدين ويرفض تهديدات الاحتلال وجرائمه المرتكبة بحق الدول المجاورة ويدعو الى المشاركة الفعالة في يوم التضامن، وينوّه الى خطورة ما يقوم به الاحتلال باستهداف قيادات الفصائل والحركة الأسيرة في سجونه، وأخيرا يؤكد على "أهمية وحدة الشعب الفلسطيني على كل المستويات وعلى ضرورة تنفيذ استراتيجية وطنية جامعة لحماية الشعب ومقدّراته وتعزيز صموده على أراضي دولة فلسطين الواقعة تحت الاحتلال" وينهونه بجملة تقسم "إنها الانتفاضة ومقاومة حتى النصر". سوف يقول بعض من سيقرأ البيان بأن فلسطين، رغم اشتداد محنتها، ما زالت بسلام وأمان طالما فيها من يضخ مثل هذه الجرعات من الأمل ويزرع سماواتها بالبرق، وإن كان برقًا خلبا. وآخرون, بعد أن غزا الشيب مفارقهم، سيستعيدون قصائد الشباب، قصائد الشوق واللهفة والحنين، يوم كانت "قبائل القوميين العرب" تتغنى وتردد مع الشاعر : " نحن في شوق الى وثبتنا، يا جبال القدس ثوري واغضبي"، ويتأسّون على رحيل الشاعر ومعه اللهفة وآلاف الحالمين وقد مرّت على فلسطين مائة عام من المستحيل، وبقيت المسافة فيها بين الحياة وبين الموت بمقدار صدفة من العدم أو غضبة قدر. ويبقى الرهان قائمًا وفلسطين على أعتاب انتفاضة جديدة!

