لجنة المتابعة العليا، شرعية قيد الامتحان - جواد بولس
من المقرر أن تنتخب هيئات "لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية" في اسرائيل رئيسها الجديد، بعد أن انتهت ولاية رئيسها الحالي، محمد بركة.
لقد أقيمت هذه اللجنة في مطلع ثمانينات القرن الماضي لتكون عنوانا سياسيا واجتماعيا جامعًا للمواطنين العرب وإطارا مكَلّفًا بالدفاع عن مصالحهم وحمايتهم من جميع الأخطار والتحديات التي يعيشونها. في حينه، وضعت مجموعة القادة المؤسسين دستورا للتعريف بأهداف اللجنة ولتحديد المؤسسات والهيئات الحزبية والمدنية التي ستنضوي تحت سقفها؛ واتفقوا على آلية لتوزيع عدد الأعضاء التي سيحظى بها كل حزب أو حركة أو هيئة كانت ناشطة ولها حضور سياسي أو أهلي أو شعبي ملموس.
لقد جاء قرار تشكيل لجنة المتابعة بعد سنوات من اقامة "اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية"، التي شكلت محاولة لتوحيد صف قيادات القطاع المحلي البلدي وتمكينهم من تبادل وتنسيق مواقفهم وتجاربهم القيادية، وصياغة برامج نضالية ومدنية حقوقية موّحدة في مواجهة سياسة التمييز العنصري التي انتهجتها، وما زالت تنتهجها، حكومات اسرائيل بحق مواطنيها الفلسطينيين.
شكل نجاح القيادات العربية المحلية باقامة تينك الهيئتين علامة على استيعابهم لحجم المسؤولية الوطنية العامة، وعلى قناعتهم بضرورة العمل الوحدوي السليم، المدني والوطني، من أجل البقاء ومصالح المواطنين وسلامتهم. لقد كانوا قادرين على اجتراح الأدوات التنظيمية والوسائل الكفاحية الكفيلة بمواجهة سياسات الحكومات العنصرية، وقادرين على كسب ثقة المواطنين الذين أثبتوا على مدى سنوات من التفاعل نضوجًا واستعدادًا للاصطفاف وراء والى جانب مؤسساتهم الأصيلة والتفاعل مع قراراتها.
لم تدم حالة التوافق هذه طويلا ..
لست بصدد تعداد الأسباب التي أدخلت هذه المؤسسات القيادية إلى أزمتها الحرجة والمزمنة. قد تكون بداية الكسر والتجافي عندما تم فصل ارتباط الهيئتين برئيس واحد كما كان متبعا. فرئيس "لجنة الرؤساء" كان نفسه هو رئيس "لجنة المتابعة العليا" وهو اختيار تمّ من أجل تمتين وتقنين العلاقات بين المسائل والقضايا البلدية، المدنية/ المواطنية، التي تقع ضمن ولاية اللجنة القطرية للرؤساء، مع المسائل الوطنية السياسية العامة، التي تقع ولايتها ضمن أهداف لجنة المتابعة العليا.
منذ لحظة اعلان محمد بركة عن انتهاء فترة ولايته الثانية، تصاعدت حدة النقاشات حول مكانة لجنة المتابعة وحول دورها المرتجى والمأمول. يذهب معظم المحللين الى أن اللجنة خسرت كثيرا من رصيدها التاريخي ومن أسهمها التي استثمر فيها معظم المواطنين عن قناعة وايمان صادقين. ويعيد بعض المعقبين سبب هذه الاشكالية الى دستور اللجنة الذي وضع قبل أربعة عقود ولم تطرأ عليه أية تغييرات، خاصة فيما يتعلق بمسألة المحاصصة وتوزيع مقاعد العضوية في هيئات اللجنة؛ فبعض مركبات اللجنة التي حصلت على عدد من المندوبين لم يعد لها وجود حقيقي في الشارع، ورغم ذلك ما زال "ممثلوها" يحتفظون بمقاعدهم.
ليس صعبا على من يتابع تداعيات المشهد السياسي بين المواطنين العرب في اسرائيل أن يعدد جملة الأسباب التي أدّت إلى ضعف لجنة المتابع؛ فعدا اشكاليات دستورها، سنجد ما تستورده اللجنة من فتات للصراعات الدائرة بين مركباتها خارج أروقتها، سواء كانت داخل هيئات التنظيمات نفسها، أو بين تلك الأحزاب والحركات والمؤسسات مع بعضها.
لم تنجح قيادات اللجنة العليا في التجسير على تلك الخلافات ولا بمواجهتها؛ وبدلا عن ذلك لجأوا الى نهج "التوافقية النفعية" عامدين المحافظة على الوضع القائم بينهم ، "الستاتوس كوو"، والاحتفاظ بكراسيهم، داخلها، وبمواقفهم وعقائدهم الفئوية، خارجها. لقد أفضت هذه الممارسة الى تفريغ اللجنة من مضامينها الأصلية وأدت الى دخولها في حالة من عجز في الأداء والتأثير، والاكتفاء بنشر البيانات أو بالدعوات لبعض الأنشطة الهامشية التي لا تعني شيئا لأكثرية المواطنين، أو الى الدعوة لاضرابات عامة أو لمظاهرات لم تعد تجتذب الآلاف كما كانت، رغم أهميتها وضرورتها.
لقد نُحّيت معظم الخلافات الجوهرية التي واجهتها هيئات اللجنة العليا جانبا، بعيدا عن نقطة الحسم.
لن أعددها بطبيعة الحال، ولكن سأكتفي بالاشارة إلى اثنتين منها برزتا في نقاشات الأيام الأخيرة: الأولى، تمحورت حول حق النساء في الترشح لرئاسة اللجنة والتعليقات التي نشرت حول ذلك. فعلى الرغم من أن دستور اللجنة يسمح بانضمام المرأة لعضويتها أو حتى الترشح لرئاستها، الا أننا نعرف أن هذه المسألة واجهت تحفظات واعتراضات شديدة داخل اللجنة، لا سيما من قبل أعضاء الحركة الاسلامية الشمالية، وتركت في حينه مفتوحة، أو "رُحّل" الحسم فيها لهيئات مركبات اللجنة حتى بقي "الوضع القائم" على ما هو عليه، شحة بعدد النساء وشبه تحريم على تبوئهن المناصب داخل هيئات اللجنة. يعتبر الكثيرون أن مسألة اشراك النساء في أهم مؤسستين قيادتين بين المواطنين العرب هو مؤشر على عدم جدارة تينك المؤسستين لموقع القيادة، وانتقاص بأحقية كونهما "ممثلتين شرعيتين وحيدتين" لمصالح المواطنين العرب في اسرائيل، وهي مسألة حولها نقاش وفيها نظر.
فالقضية أن هذه المؤسسات تتصرف كمؤسسات اقصائية في بعض القضايا السياسية، وكمؤسسات "محافظة" في المسائل الاجتماعية والثقافية؛ لا بل نجدها تتبنى في بعض المحطات مواقف رجعية تحركها عقائد فئوية وقوانين مجتمع ذكوري قامع غير مهادن ولا يتنازل عن فوقية الرجال المطلقة. يؤكد المنتقدون لوضع لجنة المتابعة العليا أن "محافظتها" لا تنحصر في قضية القصور في الاعتراف والعمل على حماية حقوق المرأة في العمل السياسي وحسب، بل تمتد الى غيابها عن تبني مشاريع فنية هادفة لا سيما اذا تخللها الغناء، خاصة غناء النساء، مثلما جرى في بعض المناسبات الوطنية والاجتماعية، أو بموقف تلك المؤسسات من العروض الفنية الممسرحة خاصة اذا شاركت فيها النساء، أو العروض الكشفية وغيرها من الأنشطة التي نأت عن تبنيها تلك المؤسسات أو أهملتها ولم تدافع عن صنّاعها عندما واجهوا الاعتداءات عليهم أو ملاحقتهم ومنعت عروضهم في عدة مدن وقرى عربية.
والمسألة الثانية تتعلق بفشل لجنة المتابعة العليا بوضع رؤية متكاملة لوسائل نضال المواطنين الفلسطينيين المشروعة داخل اسرائيل، وبرنامج لبناء التحالفات الممكنة والضرورية لتعزيز قوة صمودهم وقدرتهم على مواجهة الخطر المحدق بوجودهم. لقد انعكس هذا الفشل داخل المجتمع العربي من خلال القطيعة بين الجماهير وبين لجنة المتابعة وانعكس كذلك بفشلها بايجاد حلفاء لنا داخل المجتمع اليهودي.
لن أستطرد في هذه المسألة؛ فعندما أنشئت لجنة المتابعة العليا كان الأمل والحلم أن تصبح هي "الممثل الشرعي والوحيد" الذي سيذود عن مصالح المواطنين العرب في اسرائيل، والمؤتمن على حمايتهم وبقائهم في الوطن. قد يعجب البعض لاستعمالي هذا الوصف الشبيه لوصف منظمة التحرير ساعة الاعلان عن قيامها وكونها "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، لكنني تقصدت ذلك، فأدوار المؤسستين، رغم اختلاف احجامها ومآلاتها، كانت متشابهة؛ مغايرة لكنها متكافلة. وعن هذا في مقال آخر .
لقد تضافرت عدة عوامل وحوربت لجنة المتابعة من عدة جهات معادية بهدف زعزعة شرعيتها وقوتها؛ وعانت، في نفس الوقت من أخطاء مميتة وأمراض داخلية ووصل حالها الى حافة حلم يتبدد وأمل يجهض. لقد بقيت الحاجة "للجنة متابعة عليا" قائمة وأكثر الحاحا في ظروفنا الحالية فهل من الممكن إصلاحها أو اعادة بنائها ؟
يؤمن البعض بذلك؛ ويطالب آخرون بإجراءات ثورية لبناء ما هو جديد. أما أنا فأسأل: اذا كانت معظم هيئات الأجسام المشاركة في اللجنة معطوبة وبرامجها متكلسة منذ سنوات، وبعضها منتهية صلاحيته، أو اذا كانت اللجنة بالنسبة للبعض ليس أكثر من ملجأ آمن أو خيمة غفران "وتقيّة" في ظلها يحتمون، أو إذا لم تستطع اللجنة خلال عقود من الزمن، أن تعلن، متذرعة باسم الشراكة ووحدة الأضداد، موقفا موحدا من حقوق المرأة دون قيد أو شرط، والدفاع عن حرية الرأي والابداع والمساواة، والعمل مع قوى يهودية حليفة، فكيف، بعد كل هذا، يمكنها أن تتعافى وأن تعود الينا حلمًا وأملأ وأمنيات؟
مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة؛ إن شئنا.

