مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

ما بين الميعاد والميلاد: ماتت العدالة -سمير الخطيب

5.00 - (1 تقييمات)
نشرت
270
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

ما بين الميعاد والميلاد: ماتت العدالة  -سمير الخطيب
ما بين الميعاد والميلاد: ماتت العدالة
في زمنٍ تُباع فيه المواقف كما تُباع البضائع في أسواق البالي ، ينهض سؤال العدالة كأثرٍ بعد عين، كظلٍّ باهت على جدار لم يعد قائمًا، فبين "الميعاد" الذي زُرع في الأسطورة الصهيونية كأرضٍ موهومة، وبين "الميلاد" الذي وُلد على تراب فلسطين ليرمز إلى خلاص الإنسان، تتجلى المفارقة العظمى: أن الفلسطيني لا يبحث عن وطن لأنه يعرف وطنه، ولا ينحت هوية لأنه يحملها في لغته وذاكرته وتسير في دمه. أما الذي يبحث عن وطنٍ وهوية مصطنعة، فقد نال دولةً مدججة بالدعم والقوة، حتى أنها تمادت على الأمم التي صنعتها وأنشأتها .
هنا تتكشف المفارقة الفلسفية المحزنة : الهوية الأصيلة لا تحتاج إلى اعتراف، بينما الهوية المزيفة لا تقوم إلا باعترافات الآخرين وتأييدهم . من يملك الأرض حقًا يعيش مأساة النفي، ومن يفتقدها يُكافأ بدولة. وكأن التاريخ انقلب على رأسه، وأصبحت العدالة كلمةً يتيمة، تضيع بين سطور القرارات الأممية وبين صفقات القوى العظمى.
اقتراح ترامب الأخير ــ الذي يعيد صيغة الانتداب تحت مسمى "الحل" ــ ليس إلا محاولة لإفراغ الاعترافات الدولية بدولة فلسطين من مضمونها، حتى ولو كانت هذه الاعترافات لا تسمن ولا تقيم دولة، وكأن فلسطين تعود إلى ما قبل الميلاد السياسي، لتُدار كوكالة بلا شعب وبلا سيادة. الأنكى أن الموافقة العربية على مثل هذا الطرح تُعد شهادة دامغة على أن هذه الأنظمة ليست معنية لا بعدالة ولا بدولة فلسطينية، بل تسعى فقط إلى تثبيت مقاعدها في مشهد جيوسياسي هزلي، لأنها ذاتها هذه الدول التي استطاعت أن تسير الجيوش لمحاربة صدام وتسليح الارهابيين بالسلاح والمال ضد النظام السوري، وفجأة تصبح عاجزة واهنة عندما يتعلق الأمر بفلسطين. وللسخرية فإن أحد بنود المقترح الأمريكي لوقف الحرب على غزة "عدم قصف قطر مجددا" .
إن ما يُعرض على الفلسطيني اليوم تحت لافتة "صفقة" هو أبشع ابتذال للتاريخ: مبادلة الدولة بعدم الإبادة. أي أن يُمنح الفلسطيني حق الحياة مقابل التنازل عن حق الوطن. هذه ليست صفقة، بل إملاء استعمارياً يُراد له أن يكون ثوب الخلاص. إنه أحقر عرض شهدته البشرية، لأن جوهره اعترافٌ بأن الفلسطيني لا يستحق وطنًا، بل فقط هدنة مع موته.
العدالة هنا تموت مرتين: مرة حين تتحول "أرض الميعاد" إلى مبرر للاغتصاب، ومرة حين يُغتال "ميلاد المسيح الفلسطيني" في صمته الأبدي، فلا يُسمع صوته إلا صدى على جدران الكنائس المهجورة والشوارع المحاصرة. العدالة تموت حين يُصبح المعيار هو القوة لا الحق، وحين تُختزل حياة شعبٍ كاملٍ إلى بندٍ في مفاوضات لا تهدف إلا لشراء الوقت.
لكن الموت في الفلسفة ليس نهاية، بل لحظة انكشاف. موت العدالة يكشف زيف العالم الذي نعيش فيه، ويعيد إلينا السؤال الأول: هل يمكن أن يولد ميلادٌ جديد بعد كل هذا الخراب؟ الفلسطيني ــ كما علّمنا التاريخ ــ لا ينتظر اعترافات الخارج، ولا يطلب صكوك ميلاد من أممٍ متواطئة. ميلاده أبديّ، لأنه من تراب الأرض ومن دم ابنائها . وبين "الميعاد" المسروق و"الميلاد" الحقيقي، سيظل الفلسطيني شاهداً على أن العدالة وإن ماتت في أروقة السياسة، فإنها لا تموت في ضمير الإنسان، وتبقى الشعوب أنقى من حكامها ، وأبقى من كراسي السياسيين .
270
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

تصنيف: 
جاري التحميل