مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

الطبيب الجائع ...بقلم: سمير الخطيب

5.00 - (1 تقييمات)
نشرت
128
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

الطبيب الجائع ...بقلم: سمير الخطيب

 

الطبيب الجائع ...بقلم: سمير الخطيب

  •  

في قبو مظلم من مستشفى محطم في غزة، حيث تختلط رائحة الدم بعبق الدخان المتصاعد من الأنقاض، وقف الدكتور أحمد أمام مرآة مكسورة. وجهه الهزيل ينعكس عليها كأشباح متناثرة، عيونه الغائرة تحدق في نفسها بنظرة من يحاكم ضميره في محكمة داخلية لا رحمة فيها.

"ثلاثة أيام..." همس لنفسه، وصوته يرتجف كأوراق الخريف تحت وطأة العاصفة. "ثلاثة أيام والمعدة تعوي كذئب جريح، والعقل... آه، العقل الذي كان يوماً حاداً كمشرط الجراح، أصبح الآن ضبابياً كالغبار المتطاير فوق الركام."

دخل عليه صوت أنين من الردهة المجاورة، صوت طفل يستنجد بأمه التي لن تأتي أبداً. فرفع رأسه ببطء، كمن يحمل على كتفيه ثقل الكون، ومشى بخطوات متثاقلة نحو المصدر.

هناك، على سرير محطم، استلقى صبي في العاشرة من عمره، نصف وجهه مغطى بالضمادات الملطخة بالدم، والنصف الآخر يحمل عينين واسعتين مليئتين بالرعب والأمل الأخير في إنسان يرتدي المعطف الأبيض المخضب بدماء الآخرين.

"دكتور..." تمتم الصبي بصوت خافت، "هل... هل ستشفيني؟"

وقف الدكتور أحمد مشدوهاً، يدرك فجأة أن السؤال ليس موجهاً إليه وحده، بل إلى كل ذرة في جسده المتهاوي، إلى كل خلية في دماغه المعذب، إلى ضميره الذي يتمزق بين واجب مقدس وجسد خائر.

"أتعلم يا بني..." قال وهو يجلس بجوار السرير، يداه ترتجفان، ليس من البرد، بل من شيء أعمق، شيء يشبه اليأس الممزوج بالعار، "أتعلم أن في داخل كل طبيب شخصين؟ واحد يريد أن يشفي، وآخر... آخر يتوسل للبقاء حياً."

تحسس جبين الطفل بأطراف أصابعه المرتجفة، لكن الجوع جعل لمسته غير مؤكدة، كأنه يحاول قراءة كتاب بلغة منسية.

"أنا لست إنساناً سيئاً، تعلم ذلك أليس كذلك؟" استطرد كأنه يبرر لنفسه أكثر منه للطفل. "لقد قضيت سنوات أحفظ تفاصيل كل عضو في الجسد البشري، كل عرق، كل شريان... لكن لم يعلمني أحد كيف أتعامل مع جوع يلتهم قدرتي على التذكر."

رفع الطفل يده الصغيرة نحو خد الطبيب، وبحركة بريئة مسح دمعة لم يعرف الطبيب أنها سقطت.

"أمي كانت تقول أن الأطباء ملائكة..." همس الصبي.

"وماذا لو كان الملاك جائعاً؟" رد الدكتور أحمد بمرارة لا تُحتمل، "ماذا لو كان الملاك عاجزاً عن الطيران لأن جناحيه أصابهما الضعف؟"

في تلك اللحظة، انتبه إلى أن يديه تمسكان برأسه، كما لو كان يحاول منع عقله من التفكك. "أنا أقف فوقك الآن كالأعمى، أحاول أن أتذكر الفرق بين الشريان والوريد، بين الكسر والخدش، بين الحياة والموت... لكن كل ما أسمعه هو صوت معدتي تصرخ طلباً للطعام."

نظر إلى الطفل بعينين مليئتين بالخزي والغضب معاً، "أتعلم ما هي المفارقة؟ أن من يفترض به أن يداوي الجراح، أصبح هو نفسه جرحاً نازفاً."

صمت برهة، ثم تابع بصوت متهدج: "ولكن... ولكن أليس هذا ما يريدونه؟ أن يجوّعونا حتى نصبح عاجزين عن مداواتكم؟ أن يحولوا الطبيب إلى مريض، والمنقذ إلى غريق؟"

خارج النافذة المحطمة، كان صدى الانفجارات يتردد كأجراس جنازة لا تنتهي، وفي الداخل، كان صراع أعمق يدور في نفس إنسان واحد: صراع بين الرغبة في الشفاء والعجز عن البقاء، بين القسم الذي أقسمه يوماً والواقع الذي يسحقه الآن.

"سأحاول..." همس أخيراً، وهو يضع سماعته على صدر الطفل، "سأحاول أن أداويك... حتى لو كان آخر ما أفعله."

لكن في أعماقه، كان يعلم أن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان سيشفي هذا الطفل، بل ما إذا كان العالم سيشفى يوماً من صمته المميت أمام مشهد طبيب جائع يحاول إنقاذ حياة بيدين ترتجفان من الجوع.

"يا إلهي..." تمتم وهو يغمض عينيه، "لقد جعلتموني أسأل نفسي السؤال الأكثر رعباً: هل يستحق الطبيب الجائع أن يُدعى طبيباً؟ أم أنه مجرد إنسان آخر يحتضر بصمت؟"

وفي الصمت الذي تلا، لم يكن هناك سوى صوت قلبين ينبضان: قلب طفل يأمل في الشفاء، وقلب طبيب يموت من الداخل.

 

128
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

تصنيف: 
جاري التحميل