في التاسعة والستين حرّ كالريح - جواد بولس

غدا في السادس من سبتمبر سأبلغ عامي التاسع والستين. قبل يومين وقفت على مدخل معسكر "عوفر" الذي يضمّ سجنا يقبع فيه ألف ومئة أسير أمني فلسطيني ومباني المحكمة العسكرية التي يمثُل أمامها المعتقلون الأمنيون الفلسطينيون.
وصلت المحكمة لأدافع عن مجموعة من الفلسطينيين اعتقلتهم قوات الاحتلال الاسرائيلي من وسط مدينة رام الله، وبالتحديد من داخل مكاتب شركتهم العريقة المعروفة في تجارة العقارات والصرافة.
تنتصب أمامي جدران أسمنت عالية بلون يشبه لون الموت، وفوقها تمتد أسلاك شائكة عالية لتحمي مملكة الظلم، ولتؤمّن لحكّامها ولجنودهم كلّ الشروط المناسبة لتخصيب بذور الشر حتى يصل الى حالاته المطلقة.
في الطريق كنت استمع الى محمود درويش وهو يقرأ "لا ينظرون الى الوراء ليودّعوا منفى، فإن أمامهم منفى، لقد ألفوا الطريق الدائري، فلا أمام ولا وراء ولا شمال ولا جنوب". وقفت أمام جدار الاسمنت وأحسست أنني أقف أمام مرايا الزمن. للحظة شعرت بشريط عمري يكرّ بسرعة سرمدية كتلك التي وصفها الذين "عادوا" من حالة موت غير مكتمل الى الحياة. لم يغرقني "الأبيض اللانهائي" كما حدثونا؛ فحكايتي كانت حكاية السنديان حين يصير في الفلاة وحيدا، ورحلتي كانت مليئة بألوان التراب ومثيرة وطويلة، سرتها "حاملا صليبي" على دروب القيد والبكاء المكتوم والسراب، وانتصاراتي كانت صغيرة، تشبه انتصارات النحل والفراش وهي تمارس عشقها الملحمي للفناء في حضن النور والضياء.
ولدتُ في كفرياسيف، قرية جليلية صغيرة علمتنا، صغارا، كيف تكون حواكيرنا الصغيرة أوطانا، وأسقتنا الحب قطرات مع ماء السماء؛ فالحب، هكذا قالت لنا أمّنا، سيبقى للانسان إكسير الحياة الأدوَم والأقوى. كبرنا في أزقتها وعلى بيادرها التي فوق ترابها تغنّى في مواسم العز الوطنية "شعراء المقاومة" وعلّمونا كيف "نجوع ونعرى، ولكن لن نركع" وألا نيأس، فلا "غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل، وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل".
هناك، تحت سمائها البهيّة وفي أحضان مدارسها أنهيت دراستي المدرسية وانتظرت ساعة قبولي لكلية الحقوق. كان قدري، هكذا كنت أشعر مذ كنت طفلا، أن أصبح محاميا، وحين بدأت رحلة المحاماة، قبل خمسة وأربعين عاما، كنت شابا محمولا على أكتاف طموح شغوف وشعور بالانتماء يبحث عن "واديه" كي يملأه سنابل. لا أذكر إن كنت وقتها مؤمنا بأن بمقدور المحاماة أن تكون أولا التزاما وطنيا وأخلاقيا قبل أن تكون مهنة؛ ولكن بداية تدربي في مكتب المحامية الشيوعية التقدمية فيليتسيا لانجر وعملي في مكتبها كمحام، حدّدا مستقبل مساري المهني.
كانت سجون الاحتلال منتشرة في جميع مدن الضفة الغربية ومحافظاتها، ومثلها كانت المحاكم العسكرية. كنت أدخل تلك السجون بشعور أنني أدخل قلاعا تسكنها قوافل من الفرسان، سجَن الاحتلال أجسادهم لكنهم جَرّدوا من أغمادها أرواحهم وأشهروها، أمام عدوهم والعالم، بيارق عزة واصرار ومشاعل حرية. كنت أرى في عيونهم خارطة فلسطين الباسمة، وفي قسمات وجوههم تاريخ شعب لم يُرهبه احتلال ولم تردعه المؤامرات والخيانات ولم يُفسده المال ولا فرّقته المطامع والولاءات.
ما أجملها من صور وما أقساها من تجربة، عايشت خلالها تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية بجميع فصوله ومفاصله، وهو إن أردنا إجماله وانصافه، تاريخ التضحيات والصمود والارادات الحرة التي نجحت، عبر السنين، بقهر رعونة السجان وإفشال مكائده ومخططاته. لقد دافعت عن آلاف الأسرى والأسيرات وتابعت إضرابات الجوع الكبرى، وشهدت استشهاد بعض المناضلين "القديسين" ونجاة الآخرين. رأيت أطفالا يصبحون رجالا خلف قضبان الظلم ويحوّلون أصفادهم إلى جدائل أمل. زرت نساءً كنّ يسكبن الصبح من جبهاتهنّ ليصحو الوطن. رأيت بعضهن يلدن في الأسر أطفالهن ويدُسن القهر والموت بالحياة، ويحيين أساطير الخلق والسماء. بكيت على شيوخ وشباب نقلوا من الزنازين الى المقابر وتركوا بين أضلاعي خافقا بحسرة وبوجع وأثرا أقوى من النسيان ومن خلافات الفصائل ومن شر السجان.
أعادني رنين هاتفي الى محكمة عوفر. كان المتصل مترجم المحكمة ليسأل إن كنت في طريقي اليهم أم انني سأنيب عني أحد الزملاء، فأجبته.
عبرت أول بوابة حديدة صغيرة وبعدها بوابة أخرى. سلّمت بطاقة المحامي ودخلت من باب حديدي كبير الى غرفة الاستقبال والتفتيش. افرغت جيوبي وخلعت ساعتي وحزامي وحذائي ومررت عبر فاحصة الكترونية. أنهيت الاجراءت وسرت في مسرب طويل محاط من جهتيه بالاسلاك وبالاعشاب البرية. شعرت وأنا أمشي في هذا المسرب بأنني شاة تساق نحو مجهولها. يفضي المسرب الى باحة محاطة بالاسلاك، في آخرها باب يدلف منه المحامون الى ساحة فيها قاعات المحكمة وغرفتان صغيرتان من باطون مصنّع، أعدّتا لايواء المحامين وانتظارهم فيها الى أن ينادي المنادي.
دخلت القاعة رقم 7. جلس القاضي على كرسيه وأمام طاولته وقف عدد من الجنود والمحققين والمحامين، يصرخون ويتزاحمون على أدوارهم. لم يُبدِ أحد اهتماما بالفوضى ولم يحاول اخمادها، فمنذ السابع من أكتوبر عام 2023 تغيّر كل شيء في المحاكم، وغدت الفوضى سيدة المكان واختًا للعبث. منذئذ توقفت المحاكم عن احضار المعتقلين الى المحكمة، واكتفت بعرضهم على القضاة من خلال شاشات تلفزيون عامة لا تؤمّن خصوصية بين المحامي وبين موكليه. لا فائدة من الاحتجاج، فهذه هي شروط المكان الجديدة ونتيجة قصور الحالة الفلسطينية العامة. عندما حان دوري حاولت أن أتواصل مع موكليّ عبر تلك الشاشة، فكان صوت السماعة رديئا ومتقطعا تغرقه فوضى المكان. في أجواء تشبه أجواء الحِسَب الشعبية أنهيت مرافعتي. طالبت بالافراج عن موكليّ، لكن القاضي قرر تمديد اعتقال جميعهم ستة أيام اضافية.
شعرت بمرارة لم أشعر بها من قبل. فعند فيليستيا لانجر تعلمت أن تحقيق العدالة للفلسطيني أمام المحاكم العسكرية هو في الواقع رابع المستحيلات، إن لم يكن أولها، قبل الغول والعنقاء والخل الوفي. لكنني عرفت أيضا ان المعركة التي يخوضها الأسرى ونحن معهم، هي معركة كرامة نخوضها بشروط صعبة لكن ضمن هوامش حفظت لنا ولهم فرص التحرك الآمن والدفاع عنهم باحترام وبكرامة وبمعقولية.
كانت طواقم المحكمة كلها جديدة علي، ومعظم المحامين الذين قابلتهم كانوا من الشباب، الذين اشتكوا من سوء ظروف عملهم وعبثيته، أوجزها بعضهم بوصفه أنهم يعيشون المذلة كالأسرى وكأهاليهم.
تركت منطقة عوفر وفي قلبي غصة كبرى وحسرة وذكريات مسيرة كانت دوما صعبة لكنها لم تكن يوما "مذلة خالصة".
لقد بدأت، في السنوات الأخيرة، الابتعاد بهدوء عن عملي أمام المحاكم الاسرائيلية. لم يكن هذا استسلاما مني، بل محاولة للنجاة بروحي من مظاهر الذل ومن خسّة الأذلاء الجاحدين الذين تكاثروا في فلسطين؛ ولرغبتي في الاحتفاظ ببعض من طعم الحياة وروائح الماضي العطر.
لا تقرأوا في كلامي ندما؛ فلقد كانت سنوات عملي هي سنوات عمري الحقيقي، التي أبقت في صدري الوجع بجانب صور مجد انساني كبير وأصداء قصص لآلاف الأسرى الذين لم تنكسر أرواحهم. ما زلت أذكر أسماءهم وأسمع أحيانا أصوات بعضهم وهي تعلّمني كيف يكون المرء حرا حتى وهو يتلمس حدود قلبه في عتمة الزنازين، وكيف يقهر الحر عدوّه حتى وهو مقيّد على شفرة السكين.
وقفت أمام بوابة المحكمة واحتفلت بعامي التاسع والستين على صوت أم أسير رفعت يديها في الهواء ودعت لي وقالت "الله يرضى عليك يا بنيي". شعرت ساعتها كيف تكون أجمل الأعياد.
لم أشعر يوما بانتصارات كبيرة ولا بتحقيق قسط من العدل والعدالة، لكنني أشعر أنني أبقيت جذوة العدالة مشتعلة في وجه العاصفة؛ فالكلمة باسم المظلومين، إن لم يحمها الضمير، تطير هباء، وان لم تكن مواجهة الشر المطلق اشتباكا دائما كما في جميع معارك الحرية والبقاء، فلن تنال حريتك.
لقد دافعت عمّن آمنوا بأن كل قضبان القمع لا تستطيع أن تحجب عنهم وجه القمر أو تمنع اشتعال خدود فجرهم، مهما قست السماء وغفا البشر.
تسعة وستون عامًا مع مثل هؤلاء، فكيف اذن يكون ندم !