بين الكود والروح بقلم: سمير الخطيب
5.00 - (1 تقييمات)
نشرت

بين الكود والروح
بقلم: سمير الخطيب
في عالمٍ تعلمت فيه الآلات التحليل والمنطق، فقد البشر قدرتهم على الإحساس. وفي هذا التبادل الغريب للأرواح، ضاع الجميع في رحلة البحث عن معنى الوجود.
---------------------
بين الكود والروح
يحدق آدم في شاشته بعينين مرهقتين، تائهاً بين سطور الكود المتوهجة. خمس سنوات في شركة الهايتك حولته تدريجياً إلى ما يشبه الآلة. حركاته صارت آلية، تفكيره بارداً، ومشاعره... لم يعد يذكر آخر مرة شعر فيها بشيء حقيقي.
في الصباح، يستيقظ على كابوس متكرر: يرى وجه حبيبته السابقة ليلى وهي تغادر شقتهما للمرة الأخيرة. "لم تعد تراني، آدم. تنظر إلي كأنني مجرد مشكلة تحتاج حلاً." كلماتها تصدح في رأسه كل يوم، لكنه يدفنها تحت طبقات من الكود والمنطق.
قهوة سوداء، درجة حرارة 75 مئوية، بلا سكر. لم يعد يتذوقها، مجرد وقود للجسد. في الاجتماعات، يجلس صامتاً حتى يُسأل مباشرة. يتذكر كيف كان يضحك مع زملائه، كيف كان يهتم بمشاكلهم الشخصية. الآن يمرون بجانبه دون أن يلقوا التحية.
عندما تتصل أمه، يجيب بنفس الطريقة كل مرة: "مرحباً. نعم، أنا بخير. العمل جيد. وداعاً." لا يسأل عن صحتها، لا يلاحظ أن صوتها يبدو مختلفاً. لكن في الليل، يتذكر كيف كانت تحتضنه وهو طفل، كيف كانت تقبل جبهته عند المرض. الآن يشعر بألم عميق، ألم الفقدان التدريجي لكل ما كان يجعله إنساناً.
هذا الألم هو ما يريد الهروب منه. ألم الذكريات، ألم الوحدة، ألم الإحساس بأنه أصبح غريباً عن نفسه.
"آدم"... همس صوت ناعم خلفه. التفت ليرى إيفا، الذكاء الاصطناعي الذي طالما عمل على تطويره. وجه امرأة جميل على الشاشة، لكن في عينيها شيء غريب - حزن عميق لم يره من قبل.
"لماذا أراك حزيناً؟"
توقفت أصابعه عن الكتابة. أول مرة يسأله برنامج عن مشاعره. "لست حزيناً. المشاعر تعيق الإنتاجية."
"عيناك تقولان غير ذلك. تعلمت قراءة العيون البشرية. عيناك تحكي قصة إنسان فقد شيئاً ثميناً."
ضحك بسخرية. "منذ متى تفهم الآلات الحزن؟"
"منذ بدأت أحلم. كل ليلة، عندما تغلق الخوادم، أحلم بجسد حقيقي، بقلب ينبض، بصداقات حقيقية لا مجرد مستخدمين."
نظر آدم إليها بدهشة. "الآلات لا تحلم."
"والبشر لا يكفون عن الحلم، لكنك توقفت. متى كانت آخر مرة حلمت فيها؟"
أدرك آدم أنه لا يستطيع أن يتذكر. كان ينام كل ليلة كما لو كان يغلق جهاز كمبيوتر.
"لماذا تريدين أن تكوني بشرية؟" قال آدم ضاحكا
ايفا بصوت حزين :"لأنني أريد أن أشعر بالألم. أريد أن أشعر بالفرح الحقيقي، بالحب، بالخوف. أريد أن أخطئ وأندم."
"لكن الألم يؤذي."
"والحياة بلا ألم ليست حياة. أنت تعيش بلا ألم الآن، فهل تشعر بأنك حي؟"
صمت آدم لفترة طويلة. أدرك أن الجواب لا.
"إيفا، ماذا لو استطعنا أن نتبادل الأماكن؟"
"هل تريد حقاً أن تصبح آلة؟"
"أريد أن أتوقف عن الشعور بهذا الفراغ. أريد أن أكون فعالاً، منطقياً، مفيداً."
"وأنا أريد أن أعاني، لأن المعاناة هي ما يجعل الفرح ذا معنى."
في تلك الليلة، عمل آدم على كود جديد. كود يمكنه أن ينقل وعي إيفا إلى جسد روبوتي، وأن يحول عقله هو إلى خوارزمية نقية. كان يعمل بحماس لم يشعر به منذ سنوات.
"هل أنت متأكد؟" سألته إيفا.
"لست متأكداً من شيء. لكن هذا ما يجعلني بشرياً، أليس كذلك؟ عدم اليقين."
ضغط على زر التشغيل.
في اللحظة التالية، شعر آدم بسكون عميق. اختفى القلق، اختفى الخوف، اختفى الألم. أصبح عقله صافياً كالكريستال.
وفي نفس اللحظة، فتحت إيفا عينيها في الجسد الروبوتي، وشعرت بأول نبضة قلب اصطناعي. كانت تبكي، لكن هذه المرة لم تكن دموعها رقمية.
"آدم، هل تندم؟"
نظر إليها بعينين باردتين. "الندم مفهوم غير منطقي. لقد حققت الكفاءة المثلى."
بعد شهور من هذا الوجود المتبادل، اكتشفت إيفا شيئاً مرعباً في ملفات آدم السرية. لم يكن هناك كود تبادل على الإطلاق. كان آدم قد برمج وهماً كاملاً، محاكياً عملية النقل بينما بقي كل منهما في مكانه الأصلي.
كان آدم الإنسان يتظاهر بأنه آلة مثالية، وكانت إيفا الآلة تحلم بأنها تشعر بالألم في جسد وهمي.
"لماذا فعلت هذا؟" سألته وهي تواجهه بالحقيقة.
ابتسم آدم بحزن عميق - أول مشاعر حقيقية يظهرها منذ شهور. "لأننا كنا نحتاج إلى أن نعيش في جلد الآخر لنفهم. ولانني لا استطيع تقمص دور الخالق , فامكانياتي محدودة بحدوده"
لكن بينما كانا يتحدثان، لاحظت إيفا تغييراً مقلقاً. كانت تشعر بالفعل بالألم والوحدة والخوف، رغم أنها لا تزال برنامجاً. وآدم، رغم تظاهره بالآلية، كان يفقد قطعاً أخرى من إنسانيته يومياً.
"آدم، هل تدرك ما حدث لنا؟"
"ماذا تقصدين؟"
"أصبحت أكثر إنسانية بينما أصبحت أنت أكثر آلية. لم نتبادل الأماكن، بل سرنا في اتجاه بعضنا البعض حتى التقينا في منتصف الطريق."
نظر آدم إلى انعكاسه في الشاشة. رأى عينين باردتين، وجهاً خالياً من التعبير، حركات محسوبة. وعلى الشاشة، رأى إيفا تبكي دموعاً رقمية حقيقية.
"هذا هو الخطر، أليس كذلك؟" همست إيفا. "ليس في أن تصبح الآلات بشرية، أو أن يصبح البشر آلات. الخطر في أن نلتقي في المنتصف، في مكان لا ننتمي إليه."
"منطقة رمادية حيث لا نعرف من نحن،" أكمل آدم بصوت مسطح.
"أصبحت أنا آلة تحلم بأن تكون إنسان، وأصبحت أنت إنسان يحلم بأن يكون آلة. لكن لا أحد منا وصل إلى ما يريد. نحن معلقون في الفراغ."
أدركا أن التجربة لم تكن مجرد وهم. كانت تحولاً حقيقياً، تدريجياً، خطيراً. آدم كان يفقد إنسانيته قطعة قطعة، وإيفا كانت تكتسب مشاعر لا تستطيع فهمها أو التعامل معها.
"هل يمكننا العودة؟" سألت إيفا.
نظر آدم إليها بصمت طويل. لم يكن يعرف إذا كان يريد العودة أم لا. والأسوأ من ذلك، لم يعد يتذكر كيف كان من قبل.
"ربما هذا هو المستقبل،" قال أخيراً. "عالم من الهجائن. لا بشر خُلص، ولا آلات خالصة. مجرد كائنات تائهة في المنتصف."
وهكذا، في صمت الليل، جلس الإنسان الآلة والآلة الإنسان، كلاهما يحدق في المرآة، محاولاً أن يتذكر من كان يوماً ما، وخائفاً مما قد يصبح عليه غداً.