رغيف الخبز في غزة...بقلم-سمير الخطيب

رغيف الخبز في غزة
استلقى حسين على تراب ما كان يومًا بيته، وقد التفّت حوله ظلال الليل كشال أسود ممزق. من بعيد، كان صدى القصف يتردد كرعد لا ينتهي، وغبار الخراب يملأ رئتيه. كانت معدته تئن كحيوان جريح، وأصابعه ترتعش من البرد والجوع الذي طال أسابيع. في هذه البقعة المحاصرة من الأرض، حيث تحولت الحياة إلى بقاء، أغمض عينيه، وفجأة... ظهر أمامه.
الرغيف.
لم يكن مجرد قطعة خبز، بل كان قصيدة مخبوزة بأيدي الآلهة. قشرته الذهبية تتوهج كشمس الصباح، مشققة بخطوط رفيعة تحكي حكايات الحنطة التي نمت تحت السماء الزرقاء. كان مستديرًا كقمر مكتمل، منتفخًا بكبرياء، يفوح منه عبق الأفران الساخنة ورائحة الحياة نفسها.
مدّ حسين يده المرتجفة، وعندما لمس سطحه، شعر بالدفء يسري في أوصاله. كانت القشرة قاسية قليلًا، تقاوم أصابعه بعناد لذيذ، ثم تستسلم بحنان. وعندما كسرها... آه! انبثق البخار الأبيض كأرواح طاهرة تصعد إلى السماء، وظهر اللب الأبيض الناعم، إسفنجي كغيوم الصيف، مليء بالثقوب الصغيرة التي تحبس أسرار العجين المختمر.
وضع قطعة على لسانه. طعم الأرض والماء والنار والهواء... العناصر الأربعة تذوب في فمه. كان حلوًا بحلاوة الحياة، مالحًا بملوحة العرق والتعب، معقدًا كالوجود نفسه. مضغ ببطء، وكل قضمة تفتح أبوابًا في روحه أُغلقت منذ أشهر.
رأى نفسه يجلس مع أطفال الحي حول رغيف واحد، يقسمونه بعدالة مقدسة، كل فتات له معنى، كل قطعة تحمل حكاية. تذكر خبز أمه الطازج الذي كان يملأ البيت برائحته كل صباح، قبل أن تصبح الذكريات كل ما تبقى من ذلك البيت. تخيل أن يغمس قطعًا منه في زيت الزيتون من أشجار قريته التي هجرت منها عائلته، يشاهد الذهب السائل يتغلغل في مساماته. حلم بأن يحشوه بالجبن الأبيض الطري، أو يرشه بالزعتر الأخضر من أرض لم يعد يستطيع الوصول إليها، أو يصنع منه فتاتًا يطعم به الأطفال الذين ينتظرون في طوابير الطعام التي لا تنتهي.
وفجأة، تحول الرغيف في حلمه إلى كل من فقدهم، إلى أصوات الأطفال التي صمتت، إلى أمه التي كانت تخبز وتنتظر عودته. صار الرغيف وطنًا صغيرًا يحمله في قلبه، بيتًا يمكن أن يُبنى من جديد، أملًا يقاوم كل شيء.
استيقظ حسين على صوت طائرات تحلق في السماء. كانت النجوم لا تزال مختبئة خلف الدخان الكثيف. نظر حوله، رأى وجوه أخرى تنام على التراب نفسه، عائلات تجمعت تحت السماء المفتوحة. لكن طعم الرغيف ما زال عالقًا في فمه، وللحظة، شعر بشبع يتجاوز الجسد.
ابتسم في الظلام. غدًا، سينضم إلى طابور الخبز مع الآخرين، سيحمل الدقيق إن وُجد، وسيقاسم ما يجده مع جيرانه. وحتى لو لم يجد شيئًا، سيحلم بالرغيف مرة أخرى من جديد. فأحيانًا، تكون الأحلام هي آخر ما يُحاصر، وأول ما يقاوم، والخبز الوحيد الذي لا تستطيع القنابل أن تسرقه من القلوب.