مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

توفيق زياد، نناديكَ - جواد بولس

5.00 - (1 تقييمات)
نشرت
162
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

توفيق زياد، نناديكَ - جواد بولس

تحل غدا، الخامس من يوليو، الذكرى الحادية والثلاثون لرحيل توفيق زيّاد. ورغم ضجيج الغبار وحطام الوقت، أرى صورته أمامي وأسمعه، هناك عند حفاف المدى، يصرخ: أناديكم

أكتب اليوم عن توفيق زياد، ليس من باب الوفاء لأجمل الأسماء ولحارس "العين"، وحسب، بل لأننا نحتاج الى مرآة نقية نقف أمامها ونتأمل ما تبقى من ملامحنا الأصيلة الحقيقية، ونتأسى على زمن ولّى ورحل معه فرسانه، ونندب حاضرا يرهقه الصدأ ويغتاله التافهون والمراؤون ويسرقه الأخساء

نشأنا، أنا وأبناء جيلي في عصر رسم معظم ملامحه توفيقان واميلان: توفيق طوبي وتوفيق زياد واميل توما واميل حبيبي. صاغ هؤلاء، مع كوكبة أخرى من رفاقهم ومعهم قادة من أبناء هذه الأرض، كثيرا من "مقامات" حياتنا ومن "تقاسيم" هذا الوطن.  

ولدتُ، حين كان عمر النكبة ثمانية أعوام، في بيت علّمتْ أهله الهزيمة، مثلما علّمتْ من بقوا في وطنهم، كيف ينجوا اذا ما الطغيان عمّ وطمّ، واذا خاب وعد الأشقاء وكان عهدهم سرابا ويبابا

كنا ننام على فراش بسيط حشاه أهلنا بريش الحمام وبالاحلام، وغطوه بالكرامة وبالعز وبتناهيد الغمام. كبرنا وطنيين بالسليقة ولم نعرف، في ذلك الزمن، كيف وأين تصنع وتباع الوطنجية ولا عمامات السوء ولا بهت الكلام

تربينا في أحضان قرية حمتها الأصالة وبوصلات "أولي الأمر" وكانوا حينها حكماء، فزرعوا في مجتمعاتنا قيم الحرية والمحبة والفداء والعطاء، حتى صارت الدنيا حولنا منابت خضرة ومقالع صخر وهياكل للنور والبهاء

كانت بيوتنا حصوننا؛ وكان جيل توفيق زياد ورفاقه، حماة الذاكرة والسيرة والمسيرة، حراسا على ساحات البلد وعلى أسوارها، يقيمون القلاع ويرتقون الخيمة ويرممون تضاريس هوية أنهكتها النكبة وتكالبت عليها جيوش لا تعرف حدودا ولا الرأفة بشيخ أو ولد.

كنا صغارا، نلوك الخوف في العتمة وتأوينا، في الصباحات، مدارس كانت، بفضل ضمائر معلمينا، مراجل للتربية المتينة، وصوامع تجمع الناس، كل جمعة وأحد، على خير العباد وسلامة العرض والأرض والزهر . هكذا كبرنا في عصر كان، شهر أيار، مايو، زينته، والعامل فخر المجتمع وطينته الأغلى، والدين حصة لله؛ أما دستورنا فكان دستور "إميل وزيّاد" نردده لتسمع كل الدنيا "فلتسمع، سنجوع ونعرى، قطعا.. نتقطع، ونسف ترابك يا أرضا تتوجع ونموت.. ولكن لن يسقط من أيدينا علم الأحرار المشرع. لن نركع للقوة ..للمدفع لن نخضع". هكذا كنا وهكذا كان يوم كان علمنا علم الاحرار لا "الخدج"؛ وحين أسقطناه صرنا الى ما نحن عليه في هذه الأيام

لا أذكر متى كانت المرة الاولى التي التقيت فيها توفيق زياد شخصيا؛ لكنني ما زلت أشعر ما تركه ذاك اللقاء في نفسي. وجدناه مثلنا ويشبهنا. كان قريبا منا كأمنية وكنا منه ونشبهه.

عشقناه فارسا، لا يهادن عدوا، وينذر نصف عمره لمن "يجعل طفلا باكيا يضحك". وأحببناه حازما كلما واجه مدّعيا  أو مزايدا. كان مؤمنا بخميرة الانسان ومتعبدا في محاريب الحق والعدل والحرية، فقارع، بجسارة، ائمة التجهيل ووعاظ السلاطين وكهنة الفتن، الذين كانوا يجندون، كل من محرابه أو هيكله؛ "ربه" ودينه مستخصمين اخوانهم، مكفرين غيرهم من العباد والبشر. كان توفيق زياد مدرسة في التصدي للعنصرية ومواجهة الفاشيين بصدره المدفوع كفوهة بركان وبقبضته التي من ايمان وفولاذ.

التقيناه أول مرة، انا ومجموعة من الأصدقاء، كطلاب متهيبين قدوم معلمهم. صافحَنا ببسمة سمراء وديعة، وحدثنا طويلا، بصوته المتهدج وببحته الآسرة، عن عشقه لساحته الحمراء، وعن سرحان وماسورته، وأخذنا الى ليل كله صباح

توالت زياراته العادية لبيتنا، لا سيما في الفترة التي كان فيها نائبا في الكنيست. وقتها، سكنت وصديقي جمال زحالقه، في بيت مستأجر، في أحد أحياء القدس الغربية، قريب من مبنى الكنيست، فكان توفيق زياد يزورنا فيه أحيانا ليرتاح من أجواء الكنيست العنصرية التي كان يكرهها

قد تجهل أجيال اليوم تفاصيل تلك الايام، ولا تعرف كيف نجحت القوى الفاشية بتعزيز وجودها داخل الكنيست حتى سيطرت عليها بالكامل في السنوات الأخيرة رغم كل المعارك التي خاضهه  توفيق زياد ورفاقه منذ بدايات الزحف الفاشي وتصديهم له، لا من داخل الكنيست فقط،  بل في المواجهات والمظاهرات الشعبية التي كانوا يجندون الجماهير اليها ويقفون في صدارتها

كان توفيق زياد أحد أبرز الخطباء  واكثرهم حنكة في تأجيج مشاعر الجماهير وأسرهم، وقد تكون خطبته الصاخبة ضد عضو الكنيست اليميني العنصري رحبعام زثفي (غاندي) في مطلع ثمانينيات القرن الماضي من أبرز المشاهد التي شهدتها الكنيست في حينه. لقد تميز زئيفي بكونه صوتا عنصريا متطرفا يستفز على الدوام النواب العرب في الكنيست ويدعو بشكل مباشر وصريح الى تهجير المواطنين العرب، حتى تصدى له النائب توفيق زياد في احدى الجلسات وتحداه بحزم وبتهكم قائلا له "أنتم، اليمين المجنون، نحن لا نخافكم، لأننا ممسكون بخصاكم". قال كلامه وهو يمثل معناه  بيديه من على المنصة، فثارت ثائرة نواب اليمين وتهجموا عليه وهاجموه بعنف وبشكل غير مسبوق

 أذكر ذلك اليوم بوضوح؛ لأنه بعد انتهاء جلسة الكنيست جاء ليزورنا في البيت. كان متعبا لكن كانت علامات الرضا بادية على وجهه. وقف وهو يحرك ذراعيه وقال مباشرة: "يا رفيق لم أكن أعرف أن حضرته أهين لأنني  استعملت الكلمة الشعبيه للخصيتين، لا اسمهما القاموسي". ضحك وجلس وكان لحديثه بقية. كان متعبا ويشكو من عمله في الكنيست؛ فهم، قال: "لن يفهموا أننا نتعذب هنا !  اذ كيف نشارك في برلمان دولة تسعى الى إلغاء وجودنا الفعلي وتمزيق هويتنا القومية. لن يفهموا أننا نشارك في الكنيست لا لانها غنيمة أو اداة احتجاج، بل لأن واجبنا أن نحافظ على بعض المعادلات التي تتطلب منا العمل بتوازنات دقيقة: بين المبدئية والواقعية، وبين الوفاء لقضية شعبنا والبقاء في وطننا وحماية حقوقنا القومية والدفاع عن مصالح أبناء مجتمعنا مثل تأمين ميزانيات لمجالسنا المحلية والدفاع عن ارضنا وحقنا في الدراسة وفي التعبير عن رأينا. نحن في الكنيست لاننا نعتبرها ساحة نضال مكملة لساحات نضالاتنا الاخرى".  

أتذكر كلامه اليوم وأحزن، فلقد كان، في حياته، المتحدث الأبرز باسم الغضب؛ غضبنا وغضب البسطاء والكادحين والحالمين. أتذكره مهندسا في صنع لحظات ولحظات من وعينا الجمعي ومن ادراكنا أن صراعنا كمواطنين فلسطينيين في إسرائيل، ليس مع جرافات حكومة اسرائيل وقمعها واضطهادها لنا وحسب، بل هو صراع مع هزيمتنا الداخلية وضد انسلاخ مجتمعاتنا عن هويتها الأم.  

أكتب اليوم عن توفيق زياد لأننا بحاجة الى مرآة ترينا ما بقي من ملامحنا الأصيلة. أكتب عنه ونحن نقرأ الى أي هاوية وصلت ناصرته، بعد أن صارت نهبا لكل جبار عربيد، وبعد أن نجحت مؤامرات حكومات القمع والدمار والعنصرية عليها حتى ذبح الوريد. اكتب اليه ونحن نرى كيف تغزو حبيبته فرقٌ، مرة باسم جند السماء ومرة باسم الخليفة والسلطان. وهذا يطعنها باسم المسيح بحربة صليبية مسمومة، وذاك يدق باسم دين محمد، خنجره بخاصرتها حتى النزيف. لقد سقطت ناصرة التوفيق بعد أن نامت النواطير "وبشمت الثعالب "وبعد أن سقطت الرايات وعجزت عن انقاذها زنود الاحرار.

أكتب عن توفيق زياد ونحن نقرأ عن سقوط الشرق. وعن ضياع فلسطين التي أحبَّها حتى روى شوراعها بدمائه وبآخر أنفاسه

أكتب عن "توفيقي" واليه واستعيد شقاء رفيقه "الدرويش " حين رثاه وساءله: "فإلى من اشير بعد الآن؟ بعد الآن؟  مع من أستعيد الحكاية؟ آن لي أن أعرف وآن لي أن أعترف بأن أشياء كثيرة تموت فيّ، تموت على مهل، على مهل في أوج هذا الفراغ. ولم يعد للعاصفة صوت

نعم لقد ماتت فينا أشياء وأشياء حتى سقطت قلاعنا وصارت مراتع للزعران ساحات البلد.  

فيا توفيق نناديك!  

 

 

162
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

تصنيف: 
جاري التحميل