مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

فلسطين… بوصلة التموضع في العالم المتعدد الأقطاب

5.00 - (1 تقييمات)
نشرت
53
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

فلسطين… بوصلة التموضع في العالم المتعدد الأقطاب

 

فلسطين: بوصلة التموضع في عالم متعدد الأقطاب

يتناول هذا المقال الدور العربي المتراجع تجاه القضية الفلسطينية، وأُحلل كيف أن هذا التخاذل الرسمي يضر بمصالح الدول العربية ذاتها، لا بمصلحة الفلسطينيين فقط.

من الغضب إلى الخذلان: تحول في نظرتي للقضية

عندما كنت صغيرًا، كنت أغضب كثيرًا مما حل بشعبنا الفلسطيني من النكبة إلى الاحتلال. كبرت قليلًا وبدأت أقرأ، وتعلمت أن الدول تتحرك بالمصالح لا بالعواطف. حاولت البحث عن عذر للموقف العربي، ربما كانوا أضعف من المواجهة أو يخشون الانفجار الداخلي، لكن عبثًا لم أستطع فهم أو تفهم الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية. ومع اتساع تجربتي، ودرايتي بتاريخ العلاقات العربية-الإسرائيلية والدولية، وصلت إلى قناعة موجعة: أن مصلحة الدول العربية الحقيقية، على المدى القريب والبعيد، تكمن في دعم القضية الفلسطينية. ومع ذلك، تتصرف وكأنها خصم أحيانًا وأحيانًا أخرى كالمحايد أو الوسيط. فإن كانوا لا يدرون فتلك مصيبة، وإن كانوا يدرون فالمصيبة أعظم.

أنا أميز هنا بين الخذلان كشعور شخصي بالخيبة، والتخاذل كموقف سياسي محدد، غالبًا ما يكون نتيجة غياب القرار، أو قرار خاطئ، أو الارتهان لقوى خارجية، أو تقديرات مغلوطة للمصلحة الوطنية. في هذه المقالة، أنا لا أدين الخذلان العاطفي، بل أحاول تفكيك التخاذل الرسمي العربي الذي يتعارض، في رأيي، مع المصلحة القومية العربية ذاتها، قبل أن يتعارض مع مصلحة الفلسطينيين.


فلسطين: مصلحة استراتيجية عربية لا عبء سياسي

القضية الفلسطينية لم تكن عبئًا على العرب، بل كانت لسنوات طويلة الرافعة الكبرى لوحدة الشعوب والأنظمة العربية. في فترة المد القومي، شكّلت مركزية القضية حجر الزاوية في شرعية الزعماء، من عبد الناصر إلى الحبيب بورقيبة، الذي قال في خطاب أريحا 1965: "من لا يضع القدس في قلبه، لن يجد مكانًا في قلوب العرب." إن دعم فلسطين ليس مجاملة وجدانية، بل استثمار استراتيجي في وحدة المشترك العربي والرصيد الأخلاقي والسياسي الذي تآكل منذ عقود.


الشعوب تدعم... فمن يمثل من؟

تشير استطلاعات الرأي المتكررة إلى أن الموقف الشعبي العربي لا يزال منحازًا بقوة لفلسطين، رغم محاولات التطبيع الرسمية. في استطلاع Arab Barometer عام 2022، قال أن 77٪ من المشاركين العرب لا يدعمون التطبيع مع إسرائيل قبل حل القضية الفلسطينية حلًا عادلًا. وفي كل عدوان على غزة أو المسجد الأقصى، تخرج مظاهرات ضخمة في المغرب، الأردن، تونس، مصر، لبنان، الكويت، وغيرها رغم التضييق الأمني. فكيف تُبرر الأنظمة تجاهل هذا النبض الشعبي العميق؟ وهل يمكن أن تبني شرعية حقيقية وهي تتجاهل قضيتها المركزية في وجدان شعوبها؟


التخلي العربي: فراغ يملؤه الآخرون

حين تترك الأنظمة العربية موقعها الطبيعي في دعم فلسطين، لا يبقى الفراغ فارغًا، بل تملؤه قوى أخرى. إيران تُموّل وتدعم فصائل المقاومة سياسيًا وعسكريًا. تركيا تُقدّم خطابًا حادًا، وتُتيح الحضور الشعبي والدبلوماسي الفلسطيني. ورغم أن دور تركيا لا يرقى إلى مستوى الفعل المطلوب، إلا أنه يُبرز غيابًا عربيًا فادحًا حتى في الحد الأدنى من الحضور الرمزي. لقد قال المرشد الإيراني علي خامنئي عام 2012: "القدس هي طريقنا نحو العرب… حين يتركونها، نملأ الفراغ."

الجنوب العالمي يتقدم بأدوات قانونية وإعلامية جديدة. فجنوب أفريقيا رفعت دعوى ضد إسرائيل بسبب عدوانها على غزة، بينما سكتت الدول العربية ولم تتجرأ على اتخاذ أي خطوة. وقالت صحيفة Die Zeit الألمانية: "ما لم تقله القاهرة أو الرياض، قالته كيب تاون."


تكرار التخاذل يصنع ذاكرة لا تُغتفر

في عدوان 2023، كانت بعض الأنظمة العربية توقّع اتفاقيات اقتصادية مع إسرائيل أو تُشارك في احتفالات رسمية، بينما كانت صواريخ الاحتلال تُمزّق أجساد الأطفال في غزة. هنا لا يعود الأمر إلى مجرد تقصير، بل يتحول إلى مشاركة غير مباشرة في تبييض الجريمة، ويُخلّف في الوعي الشعبي العربي والعالمي ذاكرة دامغة: أن بعض العرب لم يصمتوا فقط، بل صافحوا اليد التي تضغط على الزناد.


من غزة إلى بريكس: فلسطين كاختبار لتموضع الدول العربية في العالم المتعدد الأقطاب

مع بداية تفكك النظام العالمي أحادي القطب، وصعود قوى مثل الصين وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا والهند وإيران، تصبح فلسطين أحد رموز الانقسام الجوهري بين معسكرين: معسكر الهيمنة الغربية الذي يبرر الاحتلال، ومعسكر العدالة الجديدة الذي يراها قضية إنسانية تاريخية. وقد جاءت دعوة القيادة الفلسطينية للانضمام إلى مجموعة البريكس عام 2023، رغم أنها ليست دولة مستقلة أو اقتصادًا صاعدًا، لتؤكد هذا التحول. وقد قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال قمة بريكس: "من لا يرى في فلسطين مأساة البشرية الحديثة، لا يمكنه أن يطالب بمكان في العالم الجديد."

من إندونيسيا إلى فنزويلا، ومن الجزائر إلى جنوب أفريقيا، تتفق كل الدول التي تُعارض العقوبات على روسيا أو تنتمي للجنوب العالمي على دعم الحقوق الفلسطينية والدعوة لحل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية. وقد قال الباحث الجنوب إفريقي مانديلا دي كوسا: "بعض الدول تتخلى عن فلسطين خوفًا من واشنطن… لكنها ستخسر فلسطين، وستخسر العالم الجديد معها."


بين وهم الاقتصاد والخوف العسكري من إسرائيل: عقدتان تحكمان التخاذل العربي!!!!

  1. وهم الفائدة الاقتصادية من التطبيع: منذ توقيع أول اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، رُوّج لفكرة أن التطبيع سيجلب الاستقرار والازدهار الاقتصادي. ثم تكررت الفرضية نفسها مع الأردن (1994)، ومع دول الخليج والمغرب والسودان في اتفاقيات "أبراهام". لكن الوقائع تكشف العكس تمامًا:

    • مصر لم تستفد اقتصاديًا من السلام، بل تحولت العلاقة إلى عبء سياسي.
    • الأردن يعاني من تدخلات إسرائيلية في ملف المياه والحدود والطاقة.
    • أما دول الخليج، التي راهنت على مشاريع نقل بري وممرات تجارية (مثل الممر الإبراهيمي)، فهي لم تحقّق سوى صورة دبلوماسية، بينما استفادت إسرائيل من فتح أسواق جديدة، دون أي التزام سياسي تجاه الفلسطينيين. حول هذا الموضوع، يقول الخبير الاقتصادي الإسرائيلي دان بن دافيد في دراسة لجامعة تل أبيب: "التطبيع مع العرب عزّز الاقتصاد الإسرائيلي، لكنه لم يُنتج مشاريع تنموية حقيقية للطرف الآخر." فالوعد الاقتصادي للتطبيع لم يكن سوى وهم تسويقي، منح إسرائيل مكاسب سياسية وتكنولوجية… دون أن يمنح الدول العربية شيئًا يُذكر.
  2. وهم التفوق العسكري الإسرائيلي والخوف العربي: تعيش الأنظمة العربية منذ عقود تحت ظلّ التفوق العسكري الإسرائيلي، وتتصرف وكأن إسرائيل قادرة على اجتياح أي دولة عربية إن شاءت. لكن التاريخ يُقدّم درسًا واضحًا: في حرب أكتوبر 1973، حقق العرب إنجازًا عسكريًا فقط لأنهم كانوا موحدين، سياسيًا وميدانيًا. ومع وجود تطبيع مع مصر والأردن وصمت خليجي، فإن الطريق العسكري مفتوح أمامها لممارسة الضغط أو العدوان متى شاءت وعلى أي دولة عربية. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: دعم فلسطين وإنهاء الاحتلال لا يضمن إقامة دولة فلسطينية فحسب، بل يضمن للدول العربية أمنها الاستراتيجي. إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة تُنهي مبررات التوسع والعدوان، وتُحوّل الخطر الإسرائيلي إلى شريك محايد أو خصم مكبوح. وقد كتب الجنرال الإسرائيلي المتقاعد آفي مزراحي في صحيفة هآرتس (ديسمبر 2023): "أمن إسرائيل الحقيقي لا يتحقق عبر الحرب الدائمة، بل عبر سلام تُلزم فيه بتنازلات عادلة للفلسطينيين. من دون ذلك، ستبقى في حالة حرب مزمنة مع محيطها."

خلاصة هذه النقطة هي أن الأنظمة العربية، خوفًا من القوة العسكرية الإسرائيلية ووهمًا بالمكاسب الاقتصادية، تتخذ مواقف تُضر بمصالحها الاستراتيجية، لا العكس. اقتصاديًا لم تكسب شيئًا، وأمنيًا لم يتحقق لها شيء، ومستقبلها يُعاد تشكيله من دونها. لذلك، فدعم فلسطين، وتحصين الحقوق الفلسطينية، ليس منّة ولا مخاطرة، بل هو الضمان الحقيقي الوحيد لأمن المنطقة واستقرارها.


خاتمة: فلسطين.. مفتاح المستقبل أم شاهد على الماضي؟

إن التخاذل العربي لم يعُد موقفًا سلبيًا، بل تحوّل إلى حيادٍ قاتل يرقى إلى المشاركة غير المباشرة في إضعاف الحقوق الفلسطينية. حين تُغلق المعابر، وحين تُقمع التظاهرات، وحين تُبرم الاتفاقيات الاقتصادية مع إسرائيل وسط الحرب، فإن الدول العربية لا تضر الفلسطينيين وحدهم، بل تضر نفسها، وتفقد مكانتها ومشروعها ودورها الإقليمي. وقد قال الباحث الجنوب إفريقي مانديلا دي كوسا في ذلك: "بعض الدول تتخلى عن فلسطين خوفًا من واشنطن… لكنها ستخسر فلسطين، وستخسر العالم الجديد معها."

الموقف من فلسطين اليوم هو المحك الحقيقي لتحديد من سيقود المنطقة في العقود القادمة. والدول العربية التي تتمسك بدعم فلسطين، ستجد نفسها في قلب النظام الدولي الجديد، مدعومة بأكبر القوى الصاعدة في العالم، وبشرعية شعبية قوية. أما التي تتجاهل فلسطين أو تطبع مع إسرائيل، فستجد نفسها خارج معادلات المستقبل، تابعة لنظام دولي يفقد قوته، ومنبوذة من شعوبها ومن القوى الصاعدة على حد سواء.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ستُدرك الأنظمة العربية هذه المعادلة قبل فوات الأوان؟ من غزة إلى بريكس، ومن القدس إلى موسكو وبكين، يُكتب مستقبل العالم اليوم. والموقف من فلسطين هو الذي سيحدد من سيكون حاضرًا في هذا المستقبل، ومن سيبقى حبيس الماضي. سمير الخطيب - أفكار وخواطر

 
53
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

تصنيف: 
جاري التحميل