مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

اليوم الثامن - قصة تأملية فلسفية

4.00 - (1 تقييمات)
نشرت
105
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

اليوم الثامن - قصة تأملية فلسفية
اليوم الثامن - قصة تأملية فلسفية
في مدينة تلتهم ساعاتها أرواح ساكنيها ، حيث تتسارع الأنفاس وتتشابك المواعيد، عاش "جلال" في قفص المواعيد ، محام كرس حياته للدفاع عن المظلومين ,مهنة يحبها ويعتاش منها ولم يكن على استعداد لتضييع ساعة من عمله إلا إذا لزم الأمر ..وما أكثر ما يلزم الأمر !!... لم يكن مكتبه هو ميدانه الوحيد؛ فنهاره كان حافلاً بالمحاكم والقضايا الجديدة، وما بين ذلك يجد وقتاً لكتابة تغريدات عن الأحداث الآنية المتسارعة، وقراءة مكثفة تشبع نهمه للمعرفة. كان متابعاً نهماً للأخبار، يحللها ساعة بساعة، مما جعله أحيانا ضيفاً في البرامج الحوارية. لا يكاد يغيب عن مناسبة سياسية أو اجتماعية، إلا وتجده حاضراً، يشارك الناس أفراحهم وأتراحهم، مستمعاً وناصحاً, مساءً يحارب الفوضى بالكلمات، وليلاً حالم يرسم مشروعًا لمحاربة قبضة الواقع المرير، ويخطط لمشروعه الخاص الذي لا يكتمل، ويردد كلمات عمر الخيام :" فما أطال النوم عمرا ولا قصر في الأعمار طول السهر ".
لكن الزمن، ذلك الخيط الخفي الذي ينسج الحياة، كان عدوّه الأبدي. كل دقيقة تمرّ كانت كطيّة في كتاب وجوده، تُغلق على فرصة أو لحظة لم تُعاش..
هذا الإيقاع المحموم بدأ يلقي بظلاله على جلال. شعر أن الأيام السبعة تضيق به، وأن ساعاته تتسرب كحبات رمل من بين أصابعه. كان الوقت عدوه اللدود، يطارده في صحوه ومنامه.
في ليلة شتوية قارسة، وبعد يوم طويل امتد من دوامه الصباحي إلى مشاركة في نشاط سياسي ، مروراً بزيارات اجتماعية عدة، جلس جلال في مكتبه، يحدّق في تقويمه المزدحم كخريطة لمدينة لا تعرف النوم. الإرهاق يعتصره، وصوت دقات الساعة يتردد في أذنيه كقرع طبول لا يرحم. تمتم بصوت خافت كأنه يناجي نفسه: "سبعة أيام لم تعد تكفيني... أحتاج يوماً ثامناً، يوماً خارج هذا السباق وهذا الزمن، يوماً لا يعترف به أحد سواي."
وهكذا، من رحم الإرهاق، وُلدت فكرة "اليوم الثامن". لم يكن اختراعاً تقنياً أو تغييراً في نظام الكون، بل كان ملاذاً فكرياً، فسحة روحية ابتدعها لنفسه وسماها "فراغ". هذا "الفراغ" لم يكن يوماً يُضاف إلى التقويم، ولا ساعة تُقتطع من عمل. كان حالة ذهنية، قراراً واعياً بالانفصال المؤقت عن كل ما هو مُلزم.
في "فراغ"، كان "جلال" يخلع عباءة المحامي والناشط الاجتماعي والسياسي والأب والصديق . كان يقرأ كتباً لا علاقة لها بمجاله، يقرأ لمجرد متعة القراءة بلا هدف بحثي أو مقال قادم. كان يمشي في شوارع المدينة بلا وجهة محددة، متأملاً وجوه المارة وتفاصيل الحياة اليومية التي يغفل عنها عادةً في زحمة انشغالاته. أحياناً، كان يكتفي بالجلوس في شرفته، ينظر إلى السماء ويترك لأفكاره العنان لتسبح بحرية، منصتاً إلى صمت روحه بعيداً عن ضجيج العالم الخارجي ومطالبه التي لا تنتهي.
مع مرور الشهور، بدأ المحيطون بجلال يلاحظون تغييراً. صديقه، قال له ذات مرة: "يا جلال، كيف تستطيع أن توفق بين كل هذه الالتزامات وتبدو دائماً بهذا الحضور والهدوء؟ يبدو أنك لا تتعب أبداً! إحذر ستنهار يوما ما! "
ابتسم جلال ابتسامة غامضة تحمل في طياتها سراً عميقاً وأجاب: "لأني، يا صديقي ، أعيش في ثمانية أيام، بينما العالم يعيش في سبعة."
لم يفهم الكثيرون مقصده. البعض ظن أنه يمزح، والبعض الآخر اعتبرها مجرد عبارة فلسفية مقتبسة أو لعبة بالكلمات. لكن جلال، في قرارة نفسه، كان يعرف الحقيقة. لقد اكتشف أن "اليوم الثامن" لم يكن إضافة للزمن بقدر ما كان خروجاً منه، هروباً مؤقتاً يسمح له بإعادة شحن طاقاته وتجديد روحه. لم يعد يبحث عن وقت إضافي في يومه، بل عن تلك اللحظات الثمينة التي ينسى فيها أن الوقت موجود أصلاً.
في "فراغ"، أدرك جلال أن أعظم انتصار على الزمن ليس في محاولة قهره بمزيد من العمل، بل في القدرة على تجاهله أحياناً، والعودة إلى الذات، إلى الجوهر البسيط للحياة. وأن هذا اليوم الثامن، هذا "الفراغ"، لم يكن يوماً إضافياً بقدر ما كان هو نفسه في أنقى صوره، بعيداً عن كل الأدوار والقوالب.
وذات مساء، وهو يتأمل انعكاس القمر على المياه في كأسه الذي بين يديه ، همس لنفسه: "ربما اليوم الثامن ليس يوماً على الإطلاق... بل هو المساحة التي أجد فيها ذاتي من جديد.
سمير الخطيب - أفكار وخواطر
 
105
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

تصنيف: 
جاري التحميل