مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

لحن الحياة -قصة قصيرة

5.00 - (1 تقييمات)
نشرت
152
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

لحن الحياة
قصة قصيرة
في غرفة تحتضن أثاثاً من ثلاثة عصور مختلفة، جلس مالك يتأمل كتاباً قديماً ورثه عن جده. كانت الساعة الخشبية العتيقة تدق بإيقاع رتيب، معلنة انقضاء لحظات أخرى من الزمن الذي لا يتوقف.
دخلت ابنته ليلى، بشعرها المصبوغ بألوان غريبة وأفكار متمردة تتصارع في رأسها.
"لو كنت تستمع إلى ما أقوله، لفهمت أن الحقيقة ليست ثابتة كما تظن"، قالت متنهدة وهي تجلس قبالته.
رفع مالك عينيه عن الكتاب. "وأنتِ لو نظرتِ إلى ما هو أبعد من لحظتك، لأدركتِ أن ما تسمينه 'حقيقتك' ما هو إلا ماء عابر في نهر الوجود."
ضحكت ليلى ضحكة مرة. "هذا هو الفرق بيننا، أبي. أنت تؤمن بحقائق مطلقة، بينما أنا أرى العالم في حالة تشكّل دائم. لا يمكن للحقيقة أن تكون ثابتة في عالم متغير."
"المتغير هو السطح فقط يا ابنتي، أما الجوهر فثابت. مثل النهر الذي تتغير مياهه باستمرار، لكنه يبقى هو ذاته النهر."
"لكن النهر نفسه يتغير شكله مع الزمن، يحفر مجرى جديداً، ويترك القديم ليجف." صمتت للحظة ثم أضافت: "لا أحد يعبر النهر ذاته مرتين." وابتسمت لأنها ظنت أن جملتها الأخيرة حسمت النقاش .
ابتسم مالك: "وربما لا يتغير شيء حقاً، بل نحن من يتغير."
"وهذا هو جوهر صراعنا،" تمتمت ليلى، "أنت ترى الثبات، وأنا أرى التغيّر."
دخل الجد سليم الغرفة متكئاً على عصاه، وقد سمع آخر الحوار.
"وكلاكما يرى نصف الحقيقة فقط."
التفت الاثنان إليه باهتمام.
"الصراع بين الأجيال ليس صراعاً بين صواب وخطأ،" قال الجد وهو يجلس بينهما، "بل هو حوار دائم بين من عاش طويلاً ومن بدأ رحلته للتو. بين من يعرف الطريق، ومن يبحث عن طرق جديدة."
تأمل الكتاب في يد ابنه ثم أكمل: "الجيل القديم يحمل خبرة الأمس، والجيل الجديد يحمل أسئلة الغد. وما بينهما يتكوّن المعنى الحقيقي لحياة الإنسان."
"لكنكما تقاومان حركة العالم،" قالت ليلى بحدة.
هز الجد رأسه وقال بهدوء: "نحن لا نقاوم التغيير، بل نحاول أن نحفظ ما نظنه يستحق البقاء. مثلما تفعلين أنتِ حين ترفعين صوتك دفاعاً عن اختياراتك، فإنك تحمين ما تعتقدين أنه جوهرك." يلمح لرفع صوتها على أبيها وجدها .
صمتت ليلى بخجلٍ متفكرة، بينما استطرد الجد: "العلاقة بين الأجيال مثل حديث بين عاشقين يختلفان في اللغة لكن يشتركان في الشغف؛ من تصادم الأفكار تولد لحظة صدق، ومن تقاطع الرؤى يولد فهم أعمق. هكذا تمضي الحياة."
"تبدو وكأنك قرأت كثيراً"، ابتسمت ليلى.
"قرأت، وسمعت، وعشت. كل جيل يظن أنه أول من يفكر، وينسى أن من قبله مهّد له الطريق."
تلاشت ابتسامتها، وأطرقت مفكرة.
"لكن هذا لا يعني أنك لا تحملين شيئاً جديداً،" أضاف الجد بلطف. "فلو لم تختلف الأجيال، لما تغير شيء في العالم."
"إذن ماذا تقترح؟" سأل مالك، "كيف نخفف هذا التوتر المستمر بيننا؟"
تنهد الجد بعمق: "لا يمكن محوه، لأنه جزء من حياة البشر. لكن يمكن تحويله من جدار يفصلنا إلى جسر نعبره معاً."
"بأن نستمع لبعضنا؟" سألت ليلى بنبرة مازحة.
"بأن نُدرك أننا لسنا خصوماً، بل نغني لحناً واحداً بثلاثة أصوات. أنا نغمة الماضي، وأبوك إيقاع الحاضر، وأنتِ ترنيمة المستقبل. وعندما تمتزج هذه الأصوات، يولد لحن الحياة." قال الجد بهدوء
شعرت ليلى فجأة بغصة في حلقها، وقد أدركت للمرة الأولى أن جدها لن يبقى طويلاً ليعلّمها لغة هذا اللحن.
"أترين هذا الكتاب؟" أشار الجد إلى الكتاب في يد ابنه. "لم أقرأه، لكني كنت أستمع لجدي وهو يروي قصصه. وأبوك لم يكن يصغي لي كثيراً، لكنه الآن يقرأ. وأنتِ تكتبين قصصاً جديدة ستقرؤها عقول لم تولد بعد."
وقف الجد ببطء، مستنداً على عصاه.
"الاختلاف بين الأجيال ليس مشكلة يجب حلها، بل قصة يجب أن تُروى. كيف يحمل كل جيل ما يراه جوهرياً، ويتخلى عما لم يعد صالحاً. كيف يبقى الجوهر حيًّا في وجه كل ما يتغير."
غادر الجد الغرفة، تاركاً خلفه صمتاً مفعماً بالتفكر. بعد لحظات، رفعت ليلى رأسها ونظرت إلى والدها.
"هل يمكنني أن ألقي نظرة على ذلك الكتاب؟"
ابتسم مالك، وهو يمد يده بالكتاب نحوها. "بشرط أن تعلميني كيف استعمل السماعات الصغيرة حتى استطيع أن أستمع لبعض الموسيقى التي أحبها بدون أن أزعجكم."
وبينما تبادلا الكتاب والسماعات، استمرت الساعة العتيقة في دقاتها، شاهدة على لحظة تصالح مؤقتة في الصراع الأبدي بين زمنين.
سمير الخطيب - أفكار وخواطر
 
152
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

تصنيف: 
جاري التحميل