أيّوبُ القرنِ الواحدِ والعشرين
5.00 - (1 تقييمات)
نشرت
أشاهد من بعيدْ، أتألم كل يوم من جديدْ، وأيوب أراه في غزة صامدًا لا يحيدْ .
آه يا أيوب!!!

في الصحراءِ وحدهُ،
على الرمال كان يجلسُ،
يُحصي نَفَسَه كي لا يضيعَ منه صوتُ الرجاء،
يُعدُّ ما بقي من الأيامِ
كما تُعدُّ الأمُّ بكاء وضحكاتِ طفلها قبل النوم .
هذا هو أيّوبُ،
ذاكَ الذي جُرِّدَ من كلِّ شيء
إلا من إيمانه.
الريحُ هجّرت مراعِيَه،
والدودُ قَرَصَ جسدَه،
والأصدقاءُ قالوا:
"هذا بلاءٌ من ربك،
تُبْ، تُبْ!"
لكنه لم يتزحزح.
ظلَّ يقول:
"ربي أعلم،
ربي أحنّ،
ربي لا يُضيّع قلباً ساجداً في الليلِ وحده."
أيوب تعذب، أيوب عاش، أيوب مات.
---
أيّوبَ عاد!!!
عاد إلينا في القرنِ العشرين،
عبر خيامِ اللجوءِ في الدهيشة ونهر البارد .
كان يلبسُ الكوفيّة،
ويحملُ المفتاحَ صدئاً على صدره،
ويقول:
"بيتي هناك…
في طبريا…
في الطنطوره…
في مجدل عسقلان."
عاد أيّوبُ،
بجراحٍ من نكبةٍ لا تندمل،
وبصبرٍ لا يشبه إلا المدى،
قال له الناسُ:
"ربما تكون أنت الاختبار،
وربما نحن سَطْرٌ في كتاب الصبرِ،
ننتظر أن يُمحى."
---
أيّوبُ أصبح لاجئا، أيوب مات، ولم يمتْ.
أيوب دخل القرنَ الواحد والعشرين
محاطًا بأزيز الطائرات،
ومُدرّجاتٍ تلتهم الأجسادَ كما تلتهم النارُ حقلاً من القمح،
قال:
"ما زلتُ هنا…
في خانيونس،
في جباليا،
في رفح،
أجمعُ شتاتَ الأجسادِ الصغيرة،
وأبني بها جدرانَ قلبي،
كي لا أنسى."
---
أيّوبُ القرنِ الجديد
ليس نبيًا من كتبٍ قديمة،
بل شعبٌ
يأكلُ خبزًا مخلوطًا بالغبار،
ويحملُ الموتَ في جيبِه
كما يحملُ التلميذ دفتراً ممزقًا للغد.
يتساءل:
"أما آنَ للربِّ أن يكتفي؟
أن يُعيدَ لي قريتي لا الجنة؟
أن يغسلَ عن جسدي رائحةَ الفوسفور،
لا الذنوب؟
أأظلُّ حقلاً لتجربةِ الأسلحةِ
والصمتِ
والعالمِ المتفرج؟"
---
ويهمسُ أيّوبُ لنفسه، فلا أحد يسمعه:
"أيعقلُ أن أكون بروميثيوس العصر،
يُسَلخُ كبدُهُ كلَّ صباح،
ويُقال له: اصبر، فالفجر قريب؟
لكن أيّ فجرٍ يأتي بلا ضياء؟
وأيّ شمسٍ هذه التي تأكلنا وتحرقنا بدل أن تُنير؟"
---
أيّوبُ ليس رجلًا واحدًا،
بل ملايينٌ تصلي
ولا يأتي الملَكُ ليقول: "قَد سُمع دُعاؤك".
أيّوبُ شعبٌ يُختبرُ كلَّ صباحٍ
ثم يُتركُ معلّقًا بين السماءِ والأرض،
لا صاعدًا،
ولا ساقطًا،
فقط… ينتظرُ.
---
فإلى متى، يا ربُّ،
يبقى أيّوبُ في طابورِ التجربة؟
إلى متى،
يُغمسُ جسده في حممِ القهرِ
ويُقال له: اصبر؟
-----
لقد صبرَ حتى تشققتِ الصخراتُ من دمعه،
وصبرَ حتى الريحُ خجلتْ من صبره على الريح ،
أما آنَ…
أن تُعيدَ له اسمه؟
أن تقول له:
أيّوبُ، قُمْ…
فقد آنَ للعدلِ أن يعود،
وللبلاءِ أن يُنسى؟
سمير الخطيب - أفكار وخواطر
