مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

زهور في انقاض الظلام

5.00 - (1 تقييمات)
نشرت
30
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

بمناسبة الذكرى الثمانين للنصر على النازية : ( قصة قصيرة )
✍️"زهور في أنقاض الظلام"
كان الدخان يتصاعد من بقايا المدينة المحطمة، ومع ذلك تسللت أشعة الشمس عبر السحب الرمادية، مُلقيةً ضوءًا خافتًا على أزهار برية صغيرة نبتت وسط الركام. وقف يوسف يتأمل المشهد بعيون متعبة، يديه المتجعدتين تقبضان على صورة قديمة باهتة لعائلة كاملة كانت تبتسم في زمن لم يعرفوا فيه معنى القصف.
يتناول يوسف كتاباً قديماً من جيبه، يحمل صوراً باهتة لشوارع مدمرة، وأبنية متهدمة، وعيون أطفال تحدق في الفراغ. كان كتاباً عن تاريخ الحرب العالمية الثانية، يحمله معه دوماً كأنه درس لا يريد للعالم أن ينساه.
"أترى هذه الصورة يا أحمد؟" أشار إلى صفحة صفراء تحمل صورة لجدار عالٍ يقسم مدينة إلى قسمين. "هذا هو غيتو وارسو. كان الناس محاصرين خلف هذا الجدار، تماماً كما نحن اليوم، يقاسون الجوع والمرض."
"يشبه تماماً الجدار الذي بنوه حولنا، أليس كذلك يا جدي؟" قال الصبي وهو يتأمل الصورة ثم ينظر إلى الأفق البعيد حيث يلوح الجدار العازل الرمادي.
"نعم يا بني. في وارسو، قبل ثمانين عامًا، كان هناك جدار. جدار من الحجارة والاضطهاد. قالوا إنه لحماية الناس من الآخرين، لكنه كان في الحقيقة لحبسهم حتى يموتوا ببطء."
تناول الصبي بعض الحجارة الصغيرة من الأرض. كانت يداه الصغيرتان تلتقط بعناية قطعاً من الخرسانة المسلحة التي كانت يوماً ما جزءاً من مدرسته المدمرة. "وماذا حدث لهم؟" سأل وهو يرصّ الحجارة بشدة.
"كان العالم صامتًا وهم يموتون، يا أحمد. الصمت والتجاهل، مثلما يحدث لنا اليوم. ثم ذات يوم، قرر بعض الشباب أنهم لن يموتوا في صمت. لم يكن لديهم سوى بضع بنادق قديمة وحفنة من زجاجات المولوتوف، ولكنهم واجهوا دبابات ومدافع."
"وهل انتصروا، يا جدي؟" سأل أحمد، وهو ينظر بعينين واسعتين إلى صور المقاومين اليهود والبولنديين في الكتاب.
ابتسم يوسف ابتسامة حزينة. "ليس في البداية يا بني. سقط معظمهم. كانت قوى الظلم تمتلك كل أسباب القوة المادية. لكن بذور المقاومة التي زرعوها نمت في قلوب الباقين وفي ضمير العالم. وبعد سنوات من المعاناة، سقطت الرايات السوداء التي حملت رمز الصليب المعقوف، وتحررت أوروبا من ظلام النازية."
تناول أحمد زهرة صغيرة نبتت بين شقوق الخرسانة المحطمة. "مثل هذه الزهرة، يا جدي؟ تنمو حتى في أصعب الأماكن؟"
"نعم، تمامًا مثلها." أغلق يوسف الكتاب ببطء، ثم أشار بيده نحو الأفق حيث امتد الجدار الإسمنتي العالي محاطاً بأبراج المراقبة. "انظر يا أحمد. التاريخ يعيد نفسه بأشكال مختلفة. يقولون عن جدارنا إنه للحماية أيضًا، تماماً كما قالوا عن جدار وارسو. يحاصروننا خلفه، يقطعون عنا الماء والغذاء والدواء، ويدمرون منازلنا، ثم يتساءلون لماذا نننتفض ."
"هل سينتصرون مثلما انتصر أولئك في وارسو في النهاية؟"
وضع يوسف يده على كتف حفيده. "التاريخ يعلمنا درسًا واحدًا فقط، يا بني: لا يمكن للظلم أن يستمر للأبد. مهما طال الليل، فلابد أن يأتي الفجر."
تجمع الناس حول نصب تذكاري صغير بنوه من حجارة المباني المهدمة. على قمته، وضعوا أزهارًا برية وفوقها مفتاحًا قديمًا صدئًا - مفتاح البيت الذي دُمر.
"منذ ثمانين عامًا، قال العالم 'لن نسمح بهذا مرة أخرى'. لكن الظلم يتكرر بأشكال جديدة، والضحية يمكن أن تتحول إلى جلاد." تنهد يوسف، ثم نظر إلى السماء. "المقاومة ليست بالبندقية فقط، يا أحمد. المقاومة في الذاكرة، في الغناء رغم الألم، في زراعة الزيتون على أنقاض بيتك المدمر، في تعليمك رغم هدم المدارس."
في تلك اللحظة، مرت طائرة منخفضة في السماء، فانحنى الجميع بغريزة الخوف. لكن أحمد ظل واقفًا، يتأمل الزهرة التي في يده.
"ماذا تفعل، يا أحمد؟ انحني!" همس جده بخوف.
ابتسم الصبي وقال: "لكنني أريدهم أن يروا، يا جدي. أريدهم أن يروا أن الزهور تنمو حتى في أماكن القصف. وأن الأطفال لا يزالون ينظرون إلى السماء دون خوف."
على مسافة، كانت هناك كاميرا لمراسل أجنبي تلتقط المشهد: طفل صغير يقف منتصبًا وسط الأنقاض، يرفع زهرة بيضاء صغيرة نحو السماء.
وفي زاوية الصورة، على جدار متهدم، كانت هناك كتابة باهتة بالطباشير:
"لقد هزموا الطغاة من قبل. وسنفعلها مرة أخرى."
سمير الخطيب - افكار وخواطر
May be an image of 1 person and child
 
 
 
All reactions:1
Khairya Saffia
 
 
30
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

تصنيف: 
جاري التحميل