فلسطين في "العناية المكثفة" وشعبها في "حالة ذهنية" مستعصية - جواد بولس
يبدو أن مخطط حكومة نتنياهو ازاء مصير قطاع غزة والضفة الغربية اكتسب دفعة جديدة بعد اجتماع "المجلس السياسي والامني" المصغر، الذي انعقد يوم الاثنين الفائت. وقد يكون تصريح وزير المالية الاسرائيلية بتسلئيل سموتريتش، بعد انتهاء الاجتماع، أصدق وأوضح ما قيل حول هذه المسألة، فتصويت الوزراء بالاجماع على توسيع العملية العسكرية صاحبه قرار بعدم الانسحاب من قطاع غزة حتى بعد إطلاق سراح المحتجزين، وهو ما لم يصرح به بنيامين نتنياهو علنا ولا بيان الحكومة الرسمي. وقد تعمّد سموتريتش أن يؤكد في تصريحات لاحقة له على أن "غزة ستدمر بالكامل بعد انتهاء الحرب الجارية وأنه بعد ستة أشهر لن يكون هناك حماس في القطاع لأن سكان غزة سيبدأون بالمغادرة بأعداد كبيرة نحو دولة ثالثة". يذكر انها المرة الأولى منذ بداية الحرب على غزة التي تستخدم فيها الحكومة الاسرائيلية مصطلح "احتلال قطاع غزة" كهدف من وراء قرارها بتوسيع عملياتها العسكرية .
كانت الضفة الغربية المحتلة هي الجبهة الثانية التي صعدت فيها قوات جيش الاحتلال وكتائب المستوطنين أنشطتها العسكرية واعتداءاتها على المواطنين الفلسطينيين؛ ولن يخفى على أحد أن الهدف من وراء هذه الاعتداءات هو عمليًا تنفيذ "خطة الحسم" التي وضعها بتسلئيل سموتريتش نفسه قبل أن ينضم الى حكومة نتنياهو ويبدأ بتنفيذها بعد أن تقلّد منصبيه الوزاريين: وزيرا للمالية ووزيرا في وزارة الجيش الاسرائيلية مسؤولا عن شؤون الاستيطان في الضفة الغربية. تهدف "خطة الحسم" كما أشرنا اليها في الماضي، الى القضاء على المشروع الوطني الفلسطيني من خلال محاربة وتدمير جميع الرموز الوطنية الفلسطينية والاطر السياسية والمدنية الاجتماعية وتوسيع الاستيطان الصهيوني في جميع الاراضي المحتلة، وتشجيع المواطنين الفلسطينيين على الهجرة أو اخضاعهم للحكم الاسرائيلي أو محاربة من لن يرضى منهم باحد ذينك الخيارين، والاعلان، في زمن ولاية الحكومة الحالية، على ضم الضفة الغربية للسيادة الاسرائيلية.
وكي تكتمل الصورة بأبعادها الثلاثة لا يمكننا إلّا ان نتذكر ما تخططه الحكومة الاسرائيلية تجاه مواطنيها الفلسطينيين وسياساتها المعلنة ضد تمسكهم بهويتهم الفلسطينة وتقويض آمالهم في نيل المساواة المواطنية التامة في الدولة اليهودية.
كان التعاطي مع هذه القضايا ومواجهتها يتمّان بشكل منفصل ومتكامل في آن واحد، مع التأكيد والحرص على أن نضال كل جزء من الشعب الفلسطيني كان يخضع لمعطيات ساحته ولظروفها الخاصة ولهوامش تحركها المتاحة في كل مرحلة زمنية ومرحلة. هكذا ناضل فلسطينيو الأراضي المحتلة الى أن تفرقت شعابهم وولاءاتهم بعد عام 2006 وصارت لغزة "هوامشها وبحرها وأنفاقها وأحلامها" وبقيت الضفة الغربية تراوح وتتنفس تحت جناحي سلطة وطنية وجناح الاحتلال الإسرائيلي وبينهما تولد الأماني وترحل ويكبر المستحيل. وهكذا كنا، نحن المواطنين الفلسطينين، داخل اسرائيل نواجه سياسات الاضطهاد ونخوض جميع معارك البقاء ونحن صامدون على تراب وطننا تحت سقف مواطنة ملتبسة وعرجاء.
هكذا استمرت الأحوال بمدها وجزرها الى أن جاء السابع من اكتوبر 2023، فاختلطت جميع الأوراق وعاد التاريخ بنا الى الوراء، الى نقطة الصفر ، واختلّت جميع المسلّمات والمفاهيم، وأصبحنا بحاجة إلى اعادة حساباتنا، كل على جبهته، خاصة بعد أن بدأ اليهود في العالم وداخل اسرائيل باعادة حساباتهم وترتيب مواقفهم من جديد.
لقد أدت هزة اكتوبر الى تكوين اجماع يهودي واسع وشامل حول ضرورة الرد على ما حصل بأشد القوة العسكرية واستعادة قوة الردع الاسرائيلية واسترجاع الثقة بمناعة الجيش الاسرائيلي وقدرته على ايقاع الهزيمة بكل من يتحداه ويتحرش بإسرائيل وبأمنها. وبدأت مجموعات واسعة بتغيير مواقفها السياسية ازاء امكانيات ووسائل حل الصراع مع الفلسطينيين. كانت أول هذه الفرضيات التي نسفتها هزة اكتوبر هي حل الدولتين، حيث توقفت قطاعات واسعة بين اليهود عن دعم حق الفلسطينيين باقامة دولتهم خوفا من انها ستشكل تهديدا وجوديا على مصير دولة اسرائيل.
سيقول البعض أن مبدأ حل الدولتين قد سقط مباشرة مع توقيع اتفاقية اوسلو التي تضمنت بنودها بذور قتله والقضاء عليه، كما حصل فعلا على أرض الواقع. ولئن كان في هذا الادعاء بعض من الحقيقة يبقى بعضها الآخر مغايرا؛ فقبل اكتوبر كان الاحتلال الاسرائيلي وحده متهما بتقويض هذا المبدأ، بينما صار بعده الفلسطينيون متهمون بذلك ايضا، فتراجعت عن دعمه عدة تجمعات كانت تؤمن به، بعضها يهودية صهيونية وبعضها دولية .
قد يقول البعض ان الحق الفلسطيني بالتحرر من الاحتلال ليس مرهونا بموافقة اسرائيل ولا بموقف الحركة الصهيونية منه. هذا الكلام صحيح بالمطلق، لكنه لا يكفي أمام مشاهد القتل والدمار الوحشيين في غزة؛ ولا أمام ما قد يحصل بسبب العملية العسكرية الجديدة اذا نفذتها اسرائيل فعلا. وهذا الكلام لا يكفي لوقف ما يجري في مناطق الضفة الغربية من قتل وتدمير واذلال وتخطيط شيطاني من شأنه، اذا نفذ، أن يلحق الضفة باختها غزة. وهذا الشعار لا يكفينا، نحن فلسطينيي الداخل، بعد أن زجّنا السابع من أكتوبر، ضمن جبهة الأعداء "ونستحق" جراء ذلك أن تعاملنا إسرائيل "بعناية مكثفة" أسوة باخواننا الفلسطينيين.
لقد دفعت غزة وما زالت تدفع أغلى الاثمان، وتنتظر الضفة الغربية ساعة صفرها، فإما السقوط التام وإما معجزة للنجاة؛ أمّا نحن في الداخل فنقف على مفترق طرق خطير ونعاني من حالة وصفت "كحالة ذهنية مرضية مستعصية" . هذا ما يؤكده واقعنا وما يكتب عنه مخططو سياسات اسرائيل بعد أن ذوّتت قياداتها ونخبها وخبراؤها خلاصات السابع من اكتوبر وبنوا عليها تصوراتهم للمستقبل، "فدولة اسرائيل بعد السابع من أكتوبر ليست الدولة التي كانت قبله ولن تستطيع أن تعود لتكون نفس الدولة. لقد قوّضت الأحداث التي جرت مرة واحدة سلسلة طويلة من الفرضيات الأساسية والتاريخية، براديغمات، التي كانت معتمدة كأسس لمفاهيم الأمن القومي. جزء كبير من هذه المفاهيم لم يعُد ملائما للواقع الذي وُضعت في مواجهته دولة اسرائيل". هذا مقتطف من مقدمة تقرير شامل وضعته مجموعة من الأكاديميين والخبراء في الشؤون العسكرية والامنية العاملين في معهد "مسجاف, معهد الأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية" وقاموا قبل ثلاثة أيام بتسليمه لرئيس الكنيست ليقوم بدوره بعرضه على الجهات ذات الصلة والاختصاص والافادة منه وتنفيذ توصياته.
لن أمر على فصول التقرير المهم والشامل، لكنني وأنا أقرأ خلاصات فصوله فكرت بأهل غزة الذين لن يقرأوه ولن يقرأه أيضا أولئك الذين يتحدثون باسمهم ويفاوضون إسرائيل على مصيرهم . قرأته وتمنيت أن يقرأه الأهل في الضفة المحتلة وكل من يراهنون على مواجهة "خطة الحسم" بالشعارات وبالصلاة وبالتمني؛ فالمواجهة ممكنة ولكن كي تنجح يجب أن يعرفوا ماذا يخطط لهم العدو وأي "لعبة" يجيد، ثم اعداد الخيل لها والفوارس.
قرأت وقلت: ما لغزة لغزة ورب يحميها وما للضفة للضفة ورب يحميها، وما لنا لنا، وجنى كل البيادر في النهايات لأهل الأرض ومن يحرسها ويحميها . قرأت المشهد وأمامي ما كتبه زميل قلق مثلنا في صفحته محاولا تفكيك جدائل واقعنا المعقد فقال : "قد يكون أدق ما يشرح سياسات اسرائيل تجاه المواطنين العرب داخل الخط الاخضر ، خاصة في سياق الحرب على غزة هو مصطلح politcide ، أي " القتل السياسي." وهو المصطلح المستخدم للاشارة الى مسعى تفكيك أو محو جماعة سياسية من الوجود من خلال تدمير مؤسساتها ومجالاتها العامة ونزع قدرتها على التأثير او التمثيل ومحو هويتها أو وخنق تعبيرها وملاحقة القيادات وسجنها وتهديد عائلاتهم". هذا هو حالنا ويُسأل السؤال كيف نواجهه ؟ فالمواجهة، حسب ما كتبه، "تحتاج الى عمل سياسي جماعي متكافل بهدف الخروج أوّلا من "الحالة الذهنية" التي استفحلت في أوساطنا، ثم اتخاذ خطوات تفشل هذه السياسة".
كلام دقيق وصائب ولكن يبقى السؤال كيف سنفعل ذلك وتبقى المعضلة من سيقوم بذلك ؟
وللحديث بقية ..