• عيدٌ بأيِّة حالٍ عُدتَ يا عيدُ - عبير عودة منصور
عيدٌ بأيِّة حالٍ عُدتَ يا عيدُ - عبير عودة  منصور

يأتينا عيد الميلاد هذه السنة حزينًا متجهِّم الملامح كئيبًا.

اعتدنا أن نسمع أوصاف هذا العيد أنه عيد العطاء، عيد الفرح، عيد المحبّة، عيد السلام. عيدٌ نردد فيه عبارة " على الأرض السلام وفي الناس المسرة"، عيدٌ نتبادل فيه الهدايا، نزيّن البيوت والسّاحات والشوارع. هو عيد الفرح، ففيه نرتب مشهد الميلاد تحت/ بجانب كل شجرة ميلاد. في هذا المشهد يظهر الطفل يسوع جميل هادئ الملامح وديع، كيف لا وهو مصحوب بوعود الخلاص والمعيّة الإلهية (لوقا 11:2 / متى 23:1). وأمه العذراء مريم تجلس قريبة من مذود علف للحيوانات في هدوء وسلام ناظرة الى طفلها المضطجع فيه. الى جانبها يقف خطيبها يوسف النجّار مستندًا الى عكّازه.

لا يقتصر مشهد الميلاد على العائلة المقدّسة بل يتعدّى ذلك ليشمل اشخاص غرباء ينتمون الى مجموعتين من مختلفتين أشّدّ الاختلاف عن بعضهما البعض:

المجموعة الأولى نجدها ممثّلة في ثلاثة رجال رعيان بعضهم واقف والبعض ساجد معهم خروف أو اثنين والمجموعة الثانية ممثّلة في ثلاثة رجال مجوس يرتدون ملابس فاخرة وأحيانًا نراهم لابسين تيجان يحملون هدايا نصوِّرها غالية الثمن.  هذا هو المشهد الجاف لكننا نعرف ان مجموعة الرعاة أتت تقص أغرب وأعجب وأبهى القصص عن الملاك الذي أرشدهم الى الطفل المولود المرسل من الله لخلاصهم يليه اجواق من الملائكة ترفع السبح والتمجيد لله على عطيته للأرض وأهلها.

أمّا المجوس فهم أمميون، غرباء عن رعيّة إسرائيل كلّمهم الله عن الحدث الخاص جدّا بواسطة النّجوم التي يراقبونها، كما أنّه قادهم الى موقع الحدث ليقدّموا السجود للملك المولود ويقدّموا هداياهم التي تليق بالملوك.

كذا هي أحداث قصص الميلاد التي تُروى وتُمَثّل في الكنائس والمسارح وحتى على ناصيات الطرق. هل هي ورديّة وسلسة بهذه البساطة؟

لنرجع الى التاريخ لمعرفة أوضاع السّاكن في ارض فلسطين تحت الحكم الروماني، في فترة ميلاد يسوع:

من قصة البشارة نعرف أن الخطيبان يوسف ومريم هما ابنا ناصرة الجليل، لكن بعد المرسوم القيصري الذي ينص على توجه كل شخص الى بلده الأصلي ليتسجّل فيها، شد يوسف ومريم الركاب متوجهَين الى بلدهما الأصلي، بيت لحم، في مسيرة دامت بضع أيّام. دعنا لا نتبلبل، لم يكن هدف الإحصاء السّكاني لترتيب توفير الخدمات الاجتماعية أو الصحية للسكان إنّما كان أوّل أهدافه هو تقدير وتسجيل عدد السكان لفرض الضرائب وجبيها، جباة الضرائب كانوا العشارين الذين كان مسموح لهم ان يأخذوا فوق الضريبة التي سيدفعوها للرومان ما يشاؤون من مبالغ فكانوا يثقلون كاهل الناس بها بلا رحمة. هذا بالإضافة الى هدف معرفة عدد الأشخاص المناسبين للجندية لتجنيدهم الى صفوف جيش الاحتلال.

إذن أطاع يوسف ومريم خطيبته الحبلى أمر الامبراطور وتكبّدا الصعاب رغم علمها أنهما لن يجنيا أيّ شيء حسن منه سوى التعب والعناء هذا بالإضافة الى زيادة سطوة الاحتلال وقمعه.

ربما فكّر يوسف ومريم ان بمجرد وصولهما الى بيت لحم سوف يستقرا في نزل ليحصلا على قسط من الراحة بعد الرحلة صعودًا الى جبال يهوذا. لكن هيهات، فالبلد مزدحمة بالقادمين للتسَجُّل وبالتالي امتلأت الفنادق والنُّزُل بهم لم يبقَ لهما سوى اللجوء الى حظيرة حيوانات... وهناك تحت هذه الظروف غير الصّحيّة والتعب الجسماني المتراكم بسبب السفر الطويل تضع مريم العذراء ابنها البكر دون أي أحد يساعدها من أهلها أو نساء حارتها، بلدها المتمرسات في الاهتمام في الأطفال ورعايتهم. (ربما تكون قد كسبت تجربة من مساعدتها لنسيبتها اليصابات في ولادتها ليوحنا).

لقد صمتت السماء عن أي رسالة لشعب الله مدة 400 عام، لكن الشعب لم يفقد الامل وبقي ينتظر بفارغ الصبر مجيء المسيّا (مثل سمعان الشيخ). يقال أنه كان حلم كل فتاة عبرية ان تكون هي أم المسيّا المنتظر والموعود. لم تتوقع أيٌ منهن انها سوف تلد المسيّا في حظيرة حيوانات بعيدة عن أهلها.

في قصة الميلاد في حيثيّاتها وأحداثها الكاملة نرى صعوبة وضع الانسان وقصور حيلته في التغلب على ظروفه من جهة، ومن جهة أخرى نرى الله يشجعه برسائل سماوية نبوية تؤكد له ان الصعوبات ليست دليلًا على خروج الانسان عن مشيئة الله أو أن الأحداث خرجت عن سيطرة الله:

  • الله يظهر ليوسف في حلم ليؤكد براءة وطهارة مريم.
  • يتكلّم الروح القدس من خلال اليصابات زوجة زكريا الكاهن إذ تطوِّب الأخيرة مريم على دعوتها الخاصة جدًّا من الله لتكون أم الرب.
  • وفي الحظيرة بعد الولادة وكل الظروف المحيطة آنفة الذكر يرسل الله رسالة سماوية من فئة غريبة تختلف عن الفئات التي سبقتها. الرعاة آنذاك هم مجموعة غير معتبرة من الشعب بل أدنى فئات المجتمع.  رعيان لم يكن لهم أن يعرفوا بالميلاد المجيد لو لم يكن الله نفسه قد أرسل لهم البشارة والتأكيد على مقام وإرسالية المولود. كما انها متوافقة ومتناغمة تمامًا مع الرسائل الأخرى التي سبقتها، لمريم، يوسف واليصابات وهذا يدعم أن الله سمح في هذه المشقات لكنها لم تعرقل أو تبطل أيًا من خطة الله ومشيئته.

الله يفهم المشاعر والأفكار البشرية ويعرف أن الناس يشككون في فهمهم خاصّةً إذا كانت أحداث فوق طبيعية وتعترضها صعوبات وعراقيل واضطهادات شديدة. لذلك نرى هذا الإله المحب المتفهم والمراعي لطبع البشر وضعفهم، يؤكِّد الرسالة ذاتها من جهات عدّة ومختلفة لا علاقة لها في بعضها البعض حتى يؤكد ليوسف ومريم صدق الدعوة التي دعاهما اليها ودعمه وتزويده لهما في كل مرحلة وأخرى.

لاحقًا نرى تطوّر آخر في القصة لسلسلة التأكيدات عن طريق قافلة أمميّة مكوّنة من مجوس آتين من المشرق كلّمهم الله بلغة النجوم التي يفهمونها عن رسالة السماء بولادة طفل سيكون ملك اليهود ولا بدّ انهم فهموا انه ذا أهمية فائقة الأمر الذي جعلهم يقطعون المسافات ليقدموا له الهدايا والسجود. وبذلك انضمّوا الى سحابة الشهود للمقام السّني للطفل البهيّ لدرجة انهم قصدوا قصر الملك هيرودس يطلبون تكريم الطفل المولود ملك اليهود متأكدين انه هناك.

من ناحية أخرى فإن وصول الخبر لآذان هيرودس ذا الشرور الكثيرة أشعره بالتهديد والخوف على مكانته وعرشه هذا جعله يرتكب احدى أبشع المجازر بقتل أطفال بيت لحم، هذا أدى بالعائلة المقدّسة أن تهرب كلاجئين الى مصر بتوجيه من الرب.

هنا نكتفي بهذا القدر من أحداث الميلاد الأوّل والتي تبدو مثل القطار الهوائي في مدينة ملاهي إذ تتبدل الأحوال من إعلانات سماوية مهيبة بهيّة مجيدة تليها سلسلة من العقبات والعراقيل والرفض والتهديد والخوف وعدم الأمان وضيق العيش وهكذا دواليك.

بعد هذا السرد للاحتفال الميلادي اليوم والميلاد الأوّل نجد أننا حصرنا ذكرى الميلاد في مباهجه دون التطرّق لسيرورته المحفوفة في المخاطر والمغموسة بالقهر والألم.

مجيء يسوع الى العالم لم يكن في سبيل اعتلاء المناصب المرموقة أو كي يحيا حياة السّيادة والتسلّط والتّنعُّم برغد العيش. من هنا كان سردي للأحداث الميلادية بما كانت عليه من تعقيدات، فيسوع جاء ليتماثل معنا في كل أحوالنا المرّة والحلوة. جاء من أجل كل طبقات المجتمع المرموقة والمغمورة، تكلم للرعاة أثناء عملهم وللمجوس من خلال عملهم. أما هو، رغم كونه سليل عائلة ملكيّة (من نسل الملك داود) لكنه اختار أن يأتي من الطبقة الفقيرة حتى يشعر كل ابن آدم انه مشمول في خطّة الله وفي النعمة والخلاص الالهي ويكون متاحًا للجميع ليأتوا اليه دون حواجز طبقية. لم يكن انتمائه هذا مجرد كلام انما حقيقة عاشها يسوع يوميًّا، إذ عاش حياة الفقراء والمشردين فلم يكن له أين يسند رأسه.

الاحداث التي تمرّ بها بلادنا في الأيام الأخيرة من موت وفقدان وشعور بعدم الأمان وتشريد وهرب بهدف اللجوء. هذه وامور أخرى أيضًا عاشها واختبرها يسوع كابن الانسان حتى يكون مشابهًا لنا في كل شيء عدا الخطيّة. فتماثله معنا لا يقتصر على انه أخذ جسد بشر بل وضع نفسه تحت كل العذابات التي أتت بها الخطية على العالم رغم انه لم يقترفها ولا مرة واحدة. وأحداث الميلاد هي فقط عيّنه من هذه الآلام التي خضع لها حتى يأتي الينا بالخلاص الموعود من الله منذ سقوط الانسان الأوّل.

 في مثال حدث الميلاد، نرى أن تعاملات الله مع الإنسان لا تقتصر على شعب، لون، جنس، مركز اجتماعي مرموق او ثقافة واحدة. بل هي شاملة جامعة لكل البشر. فيها يلائمَ الله رسالته لكل فرد ومجموعة حسب فهمها: كلّم المجوس بالنجوم، كلّم مريم الفتاة الشابّة بتأنٍ وشرح مع مثال (اليصابات) وأجاب بكثير من اللطف والاحتواء على أسئلتها. أمّا زكريا فعامله بلوم وتوبيخ، لأنه كاهن فهو يعرف الكثير فيحاسب ويطالب بالكثير.

في أحداث الميلاد المهبية الجليلة، كما في الأليمة منها نرى يد الله الحاضنة ترعى ودعم وترافق بعناية كل الفئات المذكورة. نرى عناية الله ومعيّته ومحبته لنا في وسط الآلام والأفراح. في كليهما ننمو ونتعلم أن نثق في الله في كل الظروف.

خلاصة القول هكذا أحب الله خليقته البشرية حتى هان عليه الهوان والظلم حتى يعطي لنا مثالًا نحتذي به أن نحب ونتعامل مع البشر كلّهم على أنهم صورة الله مهما كان مدى تشويه تلك الصورة فيهم. ليتنا نكون مثل خالقنا: نلاحظ المتألمين، نواسي الحزانى، أن نكون مرهم نداوي ونعصب مجروحي القلوب

لنتبع في هذا الموسم خطى فادينا وحبيبنا يسوع في التعامل مع كل انسان على انه صورة الله وتاج خليقته: نحبّه، نحترمه ونسانده.

 

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع