أيمن عودة يريد تغيير الواقع لا أن يحلله ويحتج عليه فقط| سمير خطيب
وصلتني قبل فترة هدية الرفيق والصديق، أيمن عودة، كتابه "الوطن والمواطنة رؤيا لتجديد المشروع السياسي للفلسطينيين في إسرائيل". والحقيقة أنني تأخرت بالكتابة عن الموضوع لأني قررت قراءته بتروٍ، ليس بحثا عن أخطاء بالرؤيا، وإنما تعمقًا بالبرنامج المطروح من قبل الكاتب وذلك لأن هذا المشروع يعنيني جدا كفلسطيني اولا وكفلسطيني مقيم في إسرائيل ثانيا، ويعنيني كشيوعي وجبهوي ثالثا، فالرؤيا سياسية، تنظيمية، وثقافية ووطنية بامتياز تطال كل مناحي حياتنا ومشاكلنا وآمالنا بمستقبل أفضل سياسيا ووطنيا.
أن يكتب أيمن عودة كتابا عن تجديد المشروع السياسي، وهو السياسي المعروف الذي خاض الكثير من المعارك السياسية والشعبية - ممثلا عن الجبهة الديمقراطية - يؤكد أن المشروع مستند على تجربة طويلة وعريضة في العمل السياسي والشعبي الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء، ولهذا فهو ليس كتابا نظريا وليس فلسفيا وليس تاريخيا وليس علميا، إنه خليط من كل هذه الصفات، التي حاول أيمن استخدامها في شرحه وتقديمه للرؤيا في تجديد الخطاب السياسي.
حقيقة انني انتظرت صدوره منذ فترة، فقد شاركني أيمن عودة فكرة المشروع وهو في بداياته، ومر منذها وقت أخذه أيمن بمهنية ومسؤولية كبيرة، ليوصل لنا مشروعا عمليا، سياسيا، شاملا ومميزا يثري كثيرا نضالنا المعقد والمركب في طريق حل القضية الوطنية وإقامة الدولة الفلسطينية، وفي طريق المساواة المدنية والقومية بدون التنازل قيد انملة عن هويتنا الوطنية والقومية، معتمدا على تجربة الرعيل الأول ممن قادوا النضال في أحلك الظروف وخاصة في السنوات الأولى بعد النكبة مرورا بالأيام والأحداث المفصلية التي ساهمت في تعزيز انتمائنا القومي وتثبيت هويتنا الثقافية والمدنية والإنسانية العامة.
ليس كل ما جاء به أيمن عودة جديدا، وليس كل ما كتبه محط إجماع لدى الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، ولكنه يتميز بثلاث صفات مهمة:
الشمولية: حيث تطرق لتطور الأزمة وآفاق المشروع، مواصلة تمكين المواطنين العرب الفلسطينيين في اسرائيل، توسيع الشراكة العربية اليهودية، النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية وفي الشأن الثقافي وبهذا وضع رؤيا شاملة لتجديد المشروع السياسي والذي يعتمد على تطوير الأساليب في التعامل مع المتغيرات والواقع الجديد.
البراغماتية: في المشروع إبداع في الربط بين القومي واليومي وبين الوطن والمواطنة وهو يعتمد بالأساس على الماركسية والمادية التاريخية وصراع الأضداد وتجربة الحزب الشيوعي والجبهة الكبيرة والناجحة في التعامل مع هذه القضايا على مدى عشرات السنين.
وضوح الرؤيا والهدف: بالتعامل مع القضايا غير المتفق عليها فلسطينيا مثل استعمال مصطلح فلسطينيي الداخل، والحكم الذاتي الثقافي وانتخابات لجنة المتابعة، حيث لا يكتفي بعرض مشروعه وإنما يناقش أصحاب الرأي الآخر بهذه المواضيع.
أن تكتب رؤيا لتجديد المشروع السياسي ليس امرا بسيطا، ولا هي كتابة إبداعية، فالكتابة في الأمور السياسية تعني توثيق الموقف والرأي للتاريخ وللأجيال القادمة، وهو بحاجة لجرأة وإلمام كاملين بالمعطيات الحديثة والتجارب السابقة، والتفاصيل العينية حول التناقضات الطبقية و الخارطة الجغرافية والطائفية للفلسطينيين في إسرائيل، ويظهر من الكتاب الإلمام التام لأيمن عودة بكل هذه التفاصيل وإن لم تأت المعلومات بشكل سردي، بل بين الفقرات خلال تفسير وتوضيح الرؤيا، والاهم ان الكاتب لا يعتبر أن هذه الرؤيا كاملة ونهائية بل هي اجتهاد شخصي وهي عرضة للنقاش والتطور حتى تكون مقبولة على غالبية ابناء شعبنا، وهي دعوة لكل من ينتقد أيمن أو غيره ممن يحاول الاجتهاد في إيجاد الحلول لواقع معقد أن يمسك قلمه ويدون رؤيا بديلة، ولكن للأسف العالم اسرع بالانتقاد والعثور على الأخطاء وأبطأ في الثناء والعثور على الايجابية، ومن هذا المنطلق اوافق أيمن عودة في غالبية ما كتبه ولكن لي بعض الملاحظات حول فصل "توسيع الشراكة العربية اليهودية".
يكتب ايمن عودة: "ان الحزب الشيوعي سجل في العقود الاولى بعد النكبة ومن ثم الجبهة بصمات تاريخية مجيدة... مع ذلك فهنالك جانب لم يحظ بالنجاح او لنقل النجاح العميق وهو اقناع شرائح واسعة من الجمهور اليهودي بصحة خط الجبهة وتجنيده للنضال من اجل القضايا المشتركة من خلال تنظيم واسع مشترك"، وهذه حقيقة تاريخية لا نقاش حولها عن العمل اليهودي العربي المشترك، وايمن عودة يعرف أكثر من غيره ان الحزب الشيوعي والجبهة بذلوا ويبذلون الكثير من المحاولات لإنجاح هذا المشروع. ويؤكد ذلك بقوله: "هذه الحقيقة لا تنفي وجود نجاحات منهجية وعينية، فإصرار الجبهة على هذه الشراكة، رغم كل الظروف، هو أمر يستحق التقدير على الصلابة المبدئية ". ويقترح برنامجا للتعامل مع هذه القضية، ولكن البرنامج باعتقادي غير واقعي لأنه سيعيدنا الى المربع الاول، فايمن عودة يقترح الاتفاق على برنامج الحد الادنى حول السلام، المساواة، الديمقراطية، العدالة والتقدم الاجتماعي ويضيف "يجب ان يكون الاتفاق على انهاء احتلال عام 1967 واقامة الدولة الفلسطينية، وتحقيق المساواة الفردية والجمعية، وتثبيت اسس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية".
اي باختصار الاتفاق على اهداف ومبادئ الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ومن يوافق على هذه الاهداف، هو عمليا يوافق على برنامج الجبهة كاملا، وهو الآن من المفروض ان يكون عضوًا فيها، وهنا تكمن الاشكالية فبرنامج الجبهة هو هو الصحيح لأنه الاكثر عدلا ومبدئية، ولكنه مع ذلك لم يلق النجاح الكافي او المطلوب بين الشرائح اليهودية، وعليه العودة لنفس الأهداف لن يٌحدث الاختراق المطلوب في المجتمع اليهودي، ولهذا اقترح بناء تحالفات عينية لا تجمع بالضرورة النقاط الأربع معًا ولا ذكر الاحتلال بالضرورة في كل محور وتحالف ولا ذكر المساواة أو العدالة الاجتماعية في كل محور او تحالف، وبالرغم من معرفتي وقناعتي العميقة كشيوعي بارتباط الكل معا جدليا وسياسيا، ولكن للأسف الغالبية ليسوا شيوعيين ولا جبهويين. ولهذا عند الحديث عن رؤيا جديدة لتجديد المشروع السياسي اقترح تفكيك المعادلة المركبة ووضع التناقض الرئيسي في المرتبة الاولى والعمل على حله، وعندها سيكون حل باقي القضايا إما تحصيل حاصل او أسهل بكثير بعد الخبرة وبناء الثقة مع الاطراف الاخرى، وفي حالتنا نحن لا نختلف على أن التناقض الاكبر والرئيسي هو الاحتلال واذا انتهى الاحتلال وأقيمت الدولة الفلسطينية سيصبح من السهل بناء تحالفات من أجل المساواة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولذلك يجب السعي لشراكة يهودية عربية واسعة بموضوع إنهاء الاحتلال وبدون إضافة أهداف أخرى لا تقل أهمية ولكنها بحاجة لوقت اطول لان القضية الحارقة الآن والتي لا تحتمل الانتظار هي إنهاء الاحتلال لان كل يوم اضافي هو تغيير جغرافي وديمغرافي لصالح إسرائيل، وهو زيادة الغبن اللاحق بالشعب الفلسطيني وهو زيادة الهوة بين اليهود والعرب، وربما الدعوة لاوسع تحالف لإنهاء الاحتلال تلقى تجاوبا أكثر وتركز الجهود نحو معالجة القضية الأهم الآن وهي إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
كتاب الوطنية والمواطنة كتاب مهم جدا، فهو يعطي لمحة عن تاريخنا حيث يعدد الكثير من النقاط المفصلية في تاريخ الفلسطينيين في إسرائيل منذ النكبة حتى اليوم، والتي قوت صمودنا، ثبتت بقاءنا وعززت هويتنا الوطنية، ويذكر الكثير من المعطيات العلمية والاجتماعية عن أوضاع الفلسطينيين في إسرائيل ويحدد أهدافنا وتطلعاتنا وسبل الوصول إليها عبر رؤيا شخصية وطنية بامتياز، ولهذا أنصح الجميع بقراءة الكتاب، وخاصة رفاقي في الجبهة لأن الرؤيا مشتقة من أهداف ومبادئ وأساليب عمل الجبهة والحزب الشيوعي والتي تربط جدليا بين النضال القومي والمدني، وهي نتاج تراكم نجاحات الشيوعيين والجبهويين على مدى عشرات السنين في النضال في واقع مركب ربما هو الأعقد تاريخيا بحيث يصعب التعلم من تجارب الشعوب الاخرى لان قضايانا مركبة ومعقدة وبحاجة لحلول معقدة صعبة غالبيتها إبداعية ومبتكرة، واحيانا بحاجة لتضحيات وبحاجة لإبداع بالتفكير وتطوير أساليب التفكير دائما، وهذا ما فعله ايمن عودة حيث قرر لا ان يلعن الظلام فقط بل أن يحاول تغييره أسوة برفاقه الشيوعيين الاوائل السابقين والحاليين لانه جبهوي صميمي وشيوعي بلا بطاقة، ولأن الظروف تتغير ومقدراتنا وامكانياتنا تتحسن ولهذا يجب تطوير أساليب تفكير جديدة تتناسب مع المرحلة بدون تغيير الأهداف.
شكرا أيمن عودة على اصدارك الثري الذي ينضم الى القليل القليل من الاصدارات بهذا الموضوع، التي تجيب على السؤال وماذا سيحدث مستقبلا؟، ويضع رؤيا ليس فقط لتجديد المشروع السياسي للفلسطينيين في اسرائيل، وإنما محاولة للتخطيط الاستراتيجي المستقبلي من أجل الحياة بكرامة وشموخ التي لن تكون إلا بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
آب ٢٠٢٣