• لقمة الموت - بقلم : عصام نسيب عودة 
لقمة الموت - بقلم : عصام نسيب عودة  

في أجواء موت المسيح وقيامته وقبيل صلب المسيح ببضعة أيام نرى الأحداث تتسارع نحو صلب الرب، منها وربما أهمها حادثة خيانة يهوذا الأسخريوطي وتسليمه للمسيح. كثيرا ما نسمع المقولة "لقمة العيش"، أما بالنسبة ليهوذا فقد كانت هذه "لقمة الموت"، "فبعد اللقمة دخله الشيطان"، هكذا يخبرنا الوحي بأنجيل يوحنا 13 : 27، تلك اللقمة التي غمسها رب المجد بذاته وأطعمه أياها على مائدة العشاء الأخير، وكانت هذه عادة آنذاك فيها يتم أختيار "الضيف المكرًّم" في أي وليمة بهذه الطريقة، فكم بالحري اذا تم أختيار هذا الضيف على يد الرب نفسه ...

لقد عرض الرب بهذا التكريم فرصة يهوذا الأخيرة للتوبة، ولكن ما أقسى قلب يهوذا، فلربما اعتبر هذا الأكرام نقطة ضعف عند الرب أو ربما خوف أو حتى تملق، ولكن على أي حال فقد أضاع يهوذا فرصة حياته، فتحولت لقمة التكريم للحياة والتوبة ألى لقمة الموت للهلاك، الموت ليهوذا والموت ليسوع، ولكن شتّان ما بين موت هذا وموت ذاك ... (من فضلك أقرأ عقاب يهوذا في سفر المزامير 69 : 22 - 28).

أن يهوذا الأسخريوطي الذي اختاره الرب كواحد من تلاميذه الأثني عشر لم يسلم الرب "صدفة" ولم تكن تلك نزوة عبرت عليه للحظات ومضت، أنما كانت تلك نتيجة خطايا كامنة في قلبه، رافقته عبر كل فترة اتباعه للمسيح، ونرى ذلك في أنجيل يوحنا أص 12 ع 6، حيث يقول عنه الوحي أنه كان سارقا وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه ...

ما أصعب قلب هذا الأنسان، الذي عاشر المسيح، رافقه، أكل معه، سمع كلامه الجميل ذي السلطان، عاين معجزاته بدءا بالشفاء من الأمراض العسيرة وحتى أقامة الموتى وما ألى ذلك من عجائب لا تعد ولا تحصى، وبالرغم من كل هذا "فقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا أن يسلمه" (يوحنا 13 : 2)، فيسوع "علم مسلّمه" لذلك قال لتلاميذه "لستم كلكم طاهرين" (يوحنا 13 : 11).

ما أصعب هذه الخيانة وما أرهب عقابها، حتى أن الرب تمنى لو أن ذلك الرجل لم يولد (متى 26 : 24، مرقس أصحاح 14 ع 21)، فقد كان وبأ الخيانة رابض في قلب يهوذا بدءا بالسرقة والنهب طيلة فترة اتباعه للمسيح خاتما بتسليم الرب على الرغم من الفرص التي عرضها بل ووهبها له يسوع للتوبة، ألا أن يهوذا استنزف كل الفرص ولم يتب عن خطيته. كم يذكّرنا هذا المشهد بحادثة قتل قايين لأخيه هابيل، التي بدأت بالحسد الذي دب في قلب قايين ضد أخيه بعد قبول الرب ذبيحة هابيل ورفضه لذبيحة قايين، فأتاه الله وقال: "لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك، أن أحسنت أفلا رفع وأن لم تحسن ففي الباب خطية رابضة وأليك اشتياقها وانت تسود عليها" (تكوين 4 : 4 - 7)، ولكن وللأسف فلم يرتدع قايين من تنبيه الله "فقام على هابيل أخيه وقتله" (تك 4 : 8)، فقد ربضت في قلب قايين خطية الحسد القاتلة (أنظر من فضلك 1 يوحنا 3 : 15) وألهنا الصالح أله الفرص والتنبيهات منح قايين فرصة للتوبة، ألا أن اشتياق قايين وتعطّشه للقتل غلب عليه بمحض اختياره كما غلبت كذلك خطية الأستهانة بالبكورية في قلب عيسو بأرادته، فباعها ليعقوب بأكلة عدس، "ولمّا أراد أن يرث البركة رفض، أذ لم يجد للتوبة مكانا، مع أنه طلبها بدموع" (عبرانيين 12 : 17).

نشدد ونؤكد أن يهوذا لم يكن مسيّرا في تسليم الرب، أذ كان لديه السلطة أن يسود على خطيته كما قرأنا عن قايين أعلاه (تك 4 : 7 "... وأنت تسود عليها")، بالأضافة لفرص التوبة التي قدمها له رب المجد، والتي ضرب بها يهوذا عرض الحائط وهكذا حكم بالموت على نفسه بأرادته. لقد عرف يسوع مسلّمه كما ذكرنا، بل ولقبه بالشيطان (يو 6 : 70) وقال عنه "الآكل معي ... رفع عليّ عقبه" وكانت تلك أيضا أحدى نبوات العهد القديم (مر 14 : 18، مزمور 41 : 9) كما وقال يسوع "يد الذي يسلمني معي على المائدة" (لو 22 : 21)، وهناك آيات أخرى من العهد القديم كانت قد تنبأت بخيانة يهوذا ليسوع (أنظر مثلا سفر أيوب أصحاح 19 ع 19، مز 55 : 20 - 21، أرميا 20 : 10 ...).

كلمة "لقمة" تذكّرنا بمائدة طعام التي من الجدير والطبيعي أن تدل على شركة محبة وألفة بين الجالسين حول تلك المائدة (أنظر مثلا مز 23 : 5 "ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقيّ") ولكن ولشدة الأسف فمن مائدة العشاء الأخير صعدت خيانة رهيبة. أن من أصعب الحروب التي يشنها عدو الخير على كنيسة الرب هي الحرب من الداخل، فبالرغم من عظمة الرومان وسلطة وتأثير اليهود في أيام المسيح، لم يستطع كل هؤلاء ألقاء الأيدي على يسوع ألا بعد أن تمت الخيانة من قبل واحد من أقرب أتباع المسيح - واحد من تلاميذه الأثني عشر، والأصعب من ذلك أن يهوذا حاول ولآخر لحظة أخفاء خيانته بتقبيله ليسوع "ساعة التسليم"، تلك القبلة التي كانت بمثابة التحية التقليدية بين الأخوة وعلامة السلام أستخدمها يهوذا كعلامة سيف وقتل ضد يسوع (لوقا أص 22 ع 48)، فبدل من أن تكون قبلة السلام تحولت لقبلة الموت.

الرسول يوحنا يقول بوحي الروح في مطلع أنجيله عن يسوع: "ألى خاصته جاء وخاصته لم تقبله" (يوحنا أصحاح 1 ع 11)، فيسوع لم يرفض ويقاوم فقط من اليهود أنما أسلم من أحد أتباعه المقربين، حتى أسمه "يهوذا" يدل على عظم خيانته، فيسوع هو "الخارج من سبط يهوذا". يسوع المسيح ربنا حوّل قبلة الموت ألى قبلة السلام، ومن لقمة الموت أعطانا حياة، لقمة الموت لموت يهوذا وأمثاله ولقمة الحياة لحياة يسوع وأتباعه، فلا حياة بدون موت، فلا يمكن أن حبة الحنطة تعيش أذا لم تمت أولا (يو 12 : 24)، "فشكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته بالمسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان، لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون، لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة" - 2 كو 2 : 14 – 16.

 

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع