• تأمل للعنصرة: متاهات سامر في سبل الحياة - بقلم: بطرس منصور
تأمل للعنصرة: متاهات سامر في سبل الحياة  - بقلم: بطرس منصور

تعلم سامر منذ نعومة اظافره ان الرجال لا تبكي فهم الأقوى والبكاء صفة الضعيف. نحن بواسل وشجعان لا نخاف الردى. لقد تدرب على كبت احاسيسه وحتى اخفاء الشعور الغريب في منطقة الانف والعينين بقرب انهمار الدمع.

تدرب سامر الا يثق بأحد. "ان لم تكن ذئباً اكلتك الذئاب" والذئاب لا تضع ثقتها بأحد. علّموه ان الناس تتربص لبعضها وتغدر وتطعن في الخلف. لقد اتخذ المواقف المتحفظة فلم يفتح قلبه لإنسان وبقت اسرار كثيرة دفينة وراء حواجز وابواب محكمة الاغلاق.

سمعهم يقولون ان العرب "تيوس" وان هذا "شغل عرب" للإشارة انه شغل اخرق بمستوى رديء. لقد سمع انهم يوصفون العرب بأن رائحتهم نتنة. سمع ذلك ولكنه لم يشمه. سمعهم يقولون ان الفلسطينيين لم يوفروا فرصة لإهدار الفرص للسلام وانهم السبب في تعاستهم وتهجيرهم.

قالوا له ان بؤس العرب هو في مركب جيناتهم وان تربيتهم متأثرة من البيئة الشرق أوسطية وليست أوروبية راقية ومن هنا الميل للتخلف.

تعلم الحساب فعرف انه ينتمي لأقلية عددية في بلاده والعدد القليل إشارة ضعف. ففي بيئة "انصر اخاك ظالما او مظلوما" لن تحلم ان تكون من الناصرين إذا لم يدعمك الحشد الكبير.

لقد نظر بحزن للقرية التي هي موطن اجداده فقد دمرت وتبعثر معها اقاربه في اقاصي الأرض. انه يحب بلده الآن ولكنه يسمع أحيانا عبارات حول العائلات اللاجئة فيها مثل عائلته وكيف انهم "غيّروا طابع" البلد.

لقد سمع ان التقدم للوظيفة التي تمناها مغلق امامه فهو لا يحمل تصنيفا امنيا. فأدرك ان أفضل خيار هو ان يعمل بالتدريس في احدى مدارس بلده وان يساعد شقيقه في دكان الأدوات الكهربائية في ساعات بعد الظهر.

 لقد رأى كيف ترزح بلده تحت وطأة الشح في الميزانيات. فالشوارع التي تعج بالأولاد ضيقة وملتوية. يركن الناس سياراتهم على بضع الأرصفة المتبقية. ارضية ملعب كرة القدم البلدي مثل رأس أحدهم لن يسعفه أمهر الحلاقين. ففيه بقع من العشب الأخضر المائل للصفرة في بحر من الأرضية الجرداء. لقد زار المدينة اليهودية المجاورة ورأى مشدوها الشوارع النظيفة والأماكن لركن السيارات والمتنزهات والحدائق العامة. زار المدينة اليهودية الجارة لكنه اخفض صوته ولم ينطق بلغة الضاد خوفاً من نظرات الاستهجان.

صوت خبير في الشؤون الأمنية ينبثق من المذياع محذرا من عطلة صيفية حارة على الحدود الشمالية. يشير الخبير بلغته العربية المكسّرة ولكن الواثقة ان جولة جديدة من اطلاق الصواريخ تلوح في الأفق.

سمع سامر عن ابن حارته الذي انضم لقوى داعش في العراق "ليقتل الكفار والصليبيين". شكر سامر ربه ان هذا الداعشي لم يبدأ بمهمته "المقدسة" في الحارة بل اتخذ ارض الدماء ما بين الرافدين مرتعا لجنونه.

خزن للعنف المستشري في البلدة وآخرها المشادة الكلامية التي تحولت لطوشة عمومية وكانت نتيجتها بضعة جرحى بشكل بسيط وشاب بجراح بالغة. لقد عرف الشاب الذي سكن قريبا من محل شقيقه. كان مندفعا ولكن قلبه طيب. تمنى من قلبه ان يجد اهل الخير الطريق للصلح بين المتخاصمين وعائلاتهم.

 

قلب سامر يلتوي. المرارة تملأه. الكبت والشعور بالظلم والرفض والاقصاء يطغى على الكيان.

لكن رجلا نصراويا اسمر خفيف الظل ولطيف الملامح دق على الباب. فتح سامر الباب ورأسا احبه. حدثه الزائر النصراوي عن إله يحب بدون شروط ولا حدود. حدثه عن فدائي أسلم نفسه للموت ليس لقتل الآخرين بل لبعثهم احياء. حدثه عن حياة أفضل هنا ووصف له سماء لا تمييز ولا عنصرية فيها وفوق هذا شوارعها من ذهب. راق لسامر ما سمع وقرر ان يتبع ذلك النصراوي.

ولكنه استدرك وسأل النصراوي:

ولكن كيف لي ان اصمد في الطريق الذي وصفته لي والكبت والقهر سمات عصرنا؟ سأمنحك قوة هي روحي تسكن فيك وتقويك في الطريق الوعر.

هذه الروح هي روح التعزية- تقويك وتشددك عند الصعوبات التي اعلم كثرتها.

هي تجعل تدفق المحبة الإلهية داخلك رغم الكراهية التي حولك. هي تجعلك تسامح وتزودك بالوقود للسير في الحياة.

ان روحي هذه هي التي أعطت الطاقة لبضع تلاميذ جليليين اميين وأصحاب نفوس متمردة وعقلية عنيدة ان يتحدوا اقوى نظامين في ذلك الوقت: النظام اليهودي الديني المتزمت من جهة والنظام المدني والعسكري للإمبراطورية الرومانية مترامية الأطراف.

ان روحي هذه التي ستسكن نفسك هي نفسها التي جعلت ربوات وربوات يتركون رفاهية بلادهم ليسافروا لمجاهل افريقيا وقسوتها لينشروا محبتي.

انها نفسها التي تعطي المؤمنين المصريين القدرة ان يغفروا لقاتلي احبائهم. انها تطلق المحبة فائقة الوصف وفوق الطبيعية.

دون هذه الروح سنغرق في بحر الحزن والبكاء واليأس والدمار ولكن روح العلي هي التي تنقذنا وترفعنا فوقها فنعيش حياة كما أراد لنا ان نعيشها: حياة فرح ومحبة وطول اناة ولطف...

لا يغشك احد يا سامر بالقول ان روحي القدوس قد انحسر وانحصر في مواهب للروح بل هو ابعد من ذلك بكثير. انه وقود الكنيسة وزادها في متاعب الحياة وشرها وخطرها.

انها نفس الروح المتوفرة لك يا سامر اليوم فاطلبها وغذيها في نفسك. فهي لن تقتحم ارادتها عليك.

عنصرة مبارك.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع