مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

رثاء قومي، ديمقراطي ويساري، لـ: جيل شيوعي عصيّ على الموت - القسم الثاني - سميح غنادري

0.00 - (0 تقييمات)
نشرت
888
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

رثاء قومي، ديمقراطي ويساري، لـ: جيل شيوعي عصيّ على الموت - القسم الثاني - سميح غنادري

 

لم يستبدل جيل الشيوعيين العرب الرواد، في فلسطين ما قبل النكبة وفي إسرائيل بعدها، المسألة والهوية والحقوق القومية بالقضية الطبقية وبالأممية. واعتقد أنه ليس بإمكان أي باحث علمي ان يدوّن، بموضوعية وبمصداقية، حياة ونضالات الأقلية القومية العربية الباقية في وطنها داخل إسرائيل دون الرجوع لدراسة برامج وممارسات وقراءة صحف ذاك الجيل. إذ أنها سجّل يوميات لشعب باسره، بقضاياه وكفاحاته.

وكنتُ ذكرتُ في القسم الأول من هذا المقال (نُشِر في الاسبوع الماضي) أن م.ت.ف حوّلت شعباً من المشردين اللاجئين إلى شعب من المقاومين، وأن جيل الشيوعيين العرب الروّاد حوّل البقية في وطنها من هذا الشعب من شردمة مهزومة ومفزوعة، أُريد لها أن تستجدي فتات المائدة الصهيونية، إلى أقلية قومية مكافحة تعتز بكرامتها القومية والوطنية.

وأضيف الآن أن ذاك الجيل سجّل بهذا الانتصار العربي الأول على الفكر والممارسة الصهيونية في عقر دارها- في إسرائيل. إذ جرى التخطيط المنهجي لهذه الاقلية، التي بقيت خطأ في وطنها حسب مفهوم الصهيونية، لسلخها عن شعبها وأمتها ومحو هويتها القومية والوطنية ولتطويعها وتنشئتها شراذم لعائلات وطوائف و "حطابين وسقاة ماء" على أرض "وطن اليهود". فإذا بهذه الأقلية، "تحطـّب" المخطط الصهيوني بحقها "وتسقيه" مرارة بقائها حارسة للوطن وحافظة للذاكرة الوطنية، والإعلان عن ذاتها أقلية قومية أصلانية وأصيلة وجزء لا يتجزأ من شعبها العربي الفلسطيني. هكذا جرى تسجيل الهزيمة الأولى لسياسة دولة اعتادت تسجيل الهزائم بحق العرب ودولهم.

زمكانية التأريخ، أو كيف عالج الأب ابنه...

ما ذكرناه أعلاه لم يمنع نقاداً باسم القومية و\ أو الدين من اتهام وإدانة تلك القيادة الشيوعية بأسرلة وصهينة الأقلية القومية داخل إسرائيل، وبتشويه هويتها القومية والوطنية، وبمنعها من حق التنظيم على أساس قومي، وبتدجينها وبالسعي لدمجها وإذابتها في المجتمع اليهودي الإسرائيلي، وبالحد من رفع سقف تطلعاتها القومية.

سنبحث، في هذا القسم الثاني من المقال وفي القسم الثالث القادم، مصداقية هذه الاتهامات. ولا نقول إنه لا يصحّ إجراء مراجعة تقييمية لبرامج وممارسات الشيوعيين ونقد ما قد نجده فيها من شوائب أو قصورات أو أخطاء، بل هذا مطلوب وواجب. لكني أستغرب لجوء البعض إلى هذا التقييم النقدي من خلال رؤية الماضي بنظارات اليوم. أي إسقاط لغة ومصطلحات ومفاهيم وتطلعات اليوم، والتي هي أصلاً وليدة تراكم نضالي كميّ وكيفي سابق للعمل الوطني، على ما كان قد قاله وفعله الشيوعيون في نهاية الأربعينات وعلى مدى الخمسينات. وكأنّ التاريخ بدأ اليوم وبدون ماضٍ تراكمي تصاعدي. وكأنه لا توجد لا تاريخية ولا زمكانية، ولا ظروف محلية سياسية واقتصادية واجتماعية، ولا أخرى فلسطينية وعربية شرق أوسطية ودولية، ولا عوائق النكبة ومخلفاتها ومعضلة البقاء، ولا الحكم العسكري وقوانين الطوارىء والرقابة الصارمة، ولا سقف الممكن في حينه وتوازن القوى، ولا مدى تقبل الجماهير واستعداد الناس للتحدي وللفعل النضالي.

تأريخ وتقييم بهذا التسطيح، متنكر للاعتبارات الواردة اعلاه، ما هو إلا تأريخ بدون تاريخية، وتقييم بدون قيمة، وتفكير ميتافيزيقي بدون جدلية. لذلك هو باطل موضوعياً وعلمياً. ثمّ مَنْ يتصفح ويستعرض برامج ومواقف وممارسات الشيوعيين على مدى العقود الأولى التي تلت النكبة، يلاحظ المثابرة في وتيرة تصعيدها النضالي، فكراً وممارسة كفاحية، بما يتلائم بل ويسبق وتيرة التطور الكمي والكيفي للجماهير العربية في إسرائيل ويوجهها. لم يكن تعداد هذه الجماهير دوماً (1،2) مليون نسمة بمئات آلاف أكاديمييها ومثقفيها وطلابها الجامعيين والثانويين وشبابها وفئاتها المتوسطة وموظفيها وعمالها. لقد خلّفتها النكبة رماد شعب، بقية فلاحية حطمتها الهزيمة والتشريد وأرهبها وأذلّها الحكم العسكري. وكان تعدادها (160) الف نسمة متقطعة الاوصال ومهزومة.  أقلية انهدمت وتشردت مدينتها ومدنيتها. ووصل تعدادها إلى (300) الف نسمة فقط عام 1965 (10% من السكان). وكانت نسبة طلابها الجامعيين في تلك السنة 1،5% من مجموع الطلاب في الجامعات والمعاهد العليا. ولم يتخرج منذ بداية الخمسينات حتى سنة 1966 إلا (300) جامعي عربي. وبلغ تعدادها (450) االف فقط سنة 1975، و(650) ألفا سنة 1986. وكان 80%-85% من المقترعين العرب يصوّتون للأحزاب الصهيونية في الخمسينات. وبشق النفس وبالتضحيات جرى زرع الأمل في أبناء هذه البقية، وتشجيعهم على مجرد حضور اجتماع شعبي لهم في ساحة قرية، بدلاً من الاعتداء عليهم.

يمتهن ويستطيب البعض المزاودة، قولاً لا فعلاً بالأساس. فهذه أصبحت مهمة سهلة ولا تكلف ثمناً. وهي ممكنة في ظل مجتمع مدني لشعب عصري بلغ تعداده مليون وربع المليون نسمة وغنيّ بتعددية فئاته الاجتماعية ونموّ شرائحه المتوسطة والأكاديمية والمتعلمة، وبأحزابه وبصحفه وجمعياته وأطره التمثيلية، وبخبرته الحياتية والنضالية السابقة على مدى ستين عاما. هذا بالإضافة إلى تشكيل حركة التحرر الوطني الفلسطينية (م.ت.ف) وتحقيقها لبعض الانتصارات. لكن لا يضير النقاد قليلاً من التواضع وأقل من المزاودة وأكثر من الإنصاف لدور جيل شيوعي قيادي أكاد أقول إنه أحيا العظام وهي رميم.

والغريب المستغرب والظريف اللامستظرف، أنه مقابل هذه الحدّة "القومية" في ادعاء تدجين الشيوعيين للعرب في البلاد، نرى الليونة والتسامح والتبرير إزاء أعضاء برلمان عرب عن الأحزاب الصهيونية ومن لفّ لفّهم من خدم للحكم العسكري وسماسرة سلب الارض والوشاة ومنظمي الاعتداءات على اجتماعات الشيوعيين ضد السياسة الإسرائيلية، بما فيها اطلاق النار على قادتهم وحرق نواديهم. فهؤلاء رؤوا "أنهم هكذا يخدمون شعبهم في ظل الظروف التي كانت سائدة يومها" (خدمة شعبهم أم خيانته وخدمة جيوبهم؟). أما طوبي وحبيبي وتوما وسائر أبناء جيلهم من شيوعيين نشطوا في تلك الظروف وسبحوا ضد التيار وتحدّوا وتصدّوا وقاوموا ودفعوا الثمن... فقد "أسرلوا وصهينوا ودّجنوا العرب"!

مـَثـَل هؤلاء النقاد كمثل ابن، أصبح في الستين من عمره، يدين والده القروي الكهل على مشقة مسيرة علاجه. حمله والده مريضاً بين يديه، حاميا اياه بصدره الدافئ، ماشيا على قدميه المنهكتين. قطع عشرات الكيلومترات في غابة مظلمة ومليئة بالذئاب المفترسة والأفاعي السامة، أرضها وعرة وغنية بحجارتها الجارحة وأوحالها ومطباتها. وحرص طول الطريق على تشجيعه وزرع الامل فيه، إلى أن أوصله إلى اقرب مدينة لتلقي العلاج ولإشفائه. "لماذا لم تنقلني يا  أبي يومها على جناح السرعة في سيارة على شارع معبّد؟"- يعاتب الابن أباه.

"لم تكن تتوفر يومها، يا حبيبي يا بنيّ، لا السيارة ولا الشارع المعبد"- يجيب الأب ابنه.

 

فرية الأسرلة والصهينة

الذي أتاح للحركة الصهيونية أن تقيم دولتها إسرائيل هي القيادة العربية "القومية" التي فشلت في تصديها للمخطط الإمبريالي وللمشروع الصهيوني، وليس الشيوعيون العرب. وجيش الإنقاذ العربي كان عملياً جيش الأنقاض. وكان على الشيوعيين أن يحيوا شعبهم من بين الانقاض. وبهذا انتصروا على الأسرلة والصهينة. إذ أن الأسرلة لا تعني الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود بناء على قرار التقسيم، ولا قبول الهوية- الجنسية- الإسرائيلية التي لم نخترها أصلا. فإسرائيل هي التي أتت لعندنا وقامت على أرضنا، ومن حقنا أن نحصل على جنسية مواطنتها. الأسرلة تعني التخلي عن الهوية القومية العروبية والوطنية الفلسطينية وأسرلتهما وصهينتهما، انتماءً وفكراً وممارسة سياسية. وهذا ما تصدى له الشيوعيون، كما بيـّنا في القسم الأول من هذا المقال (نُشر في الاسبوع الماضي).

ونضيف الآن أنه منذ قيام إسرائيل وحتى النصف الأول من ستينات القرن الماضي، كانت هنالك مخططات ومحاولات إسرائيلية رسمية شاركت فيها حتى قوى "يسارية" يهودية سعت لتذويب الانتماء القومي العربي وإلغاء اللغة العربية كمكوّن للهوية، بهدف بناء امَّة إسرائيلية اندماجية من يهود وعرب البلاد. فكان الشيوعيون وصحفهم رأس الحربة في مواجهة هذا المخطط. فمعركة الدفاع عن اللغة والهوية العربية، وضد التهويد للأرض وللغة والثقافة، ليست بنت اليوم، كما يعتقد البعض.

يعرف هذا نقاد الشيوعيين من بعض القوميين والإسلاميين. لكن هذا لا يمنعهم من التفتيش في دفاتر عتيقة، لأواخر أربعينات وعلى مدى خمسينات القرن الماضي، لإيجاد خطأ أو شائبة هنا و هفوة هناك لتبرير توجيه فرية الأسرلة والصهينة. علماً بأن نقطة زرقاء- بيضاء على عَلَم فكري أحمر وآخر وطني- قومي بألوانه الاربع، وفي ظل ظروف زمكانية معيّنة، ليست هي العَلَم وان كانت تسيء لنقاوته. لكن، مَنْ يكون همّه التجريح ينظر إلى النقطة من خلال عدسة تكبير ميكروسكوبي وإلى العَلَم من خلال عدسة تصغير. هذا مع تأكيدنا أنه كان من الأصح والأسلم ألا تكون تلك النقطة.

هكذا أصبح توقيع ماير فلنر على وثيقة استقلال إسرائيل إقراراً بحق إسرائيل باحتلال فلسطين. ولا يهم هؤلاء النقاد أن الشيوعيين العرب واليهود كانوا منشقين يومها. ولا يهم تفسير فلنر بانه وقع على تلك الوثيقة لانها تقوم على شرعية قرار التقسيم ووجوب إقامة دولة فلسطين بحسبه. وهكذا الأمر بخصوص رفع الحزب الشيوعي الاسرائيلي، بيهوده وعربه بعد اعادة الوحدة في تشرين أول 1948، للعَلَم الإسرائيلي في مؤتمراته ومظاهرات أول أيار وغيرها. ولا يهمّ انه عَلَم يتيم بين غابة من اعلام حمراء. وهكذا الأمر بخصوص انشاد " هتكفا" في افتتاح المؤتمرات، ونعت الحزب بانه حزب "الوطنية الإسرائيلية"، ونشر تهنئة في جريدة الحزب بمناسبة ذكرى الاستقلال. ولا يهمّ إن كانت التهنئة تمتد على سطر إلى سطرين تعقبها عشرات أسطر من النقد لسياسة إسرائيل ومن المطالبة بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. ولا يهمّ أن الحزب الشيوعي أبطل وبمبادرته كل تلك الطقوس ومنذ عقود. لكنه لم يفسر لنا لماذا مارسها في زمن ماضٍ ولماذا أبطلها. وهذا خطأ برأيي.

ما من اعتراض عندي على حق مـَن يريد إدانة تلك الأعمال. وأنا شخصيا أدينها. الاعتراض هو على اتهام الشيوعيين بأسرلة وصهينة العرب وتشويه هويتهم القومية، بناء على تلك الأعمال. وأعرف، بصفتي شيوعياً سابقا، ان تلك الممارسات كانت موضوع نقاش جدي داخل الهيئات القيادية للحزب وبين قواعده. وأعرف حرص الأحزاب عموما، خصوصاً الشيوعية، على إخفاء النقاشات الداخلية وعدم نشرها، وتفضيلها وحدتها لصالح القضايا الأساسية، على بديل تسعير الاختلاف حتى الانشقاق بسبب قضايا ثانوية حسب رأيها. لكن انا الذي انتقد هذه الشوائب في الماضي أقول اليوم، كما اعتقدت في الماضي أيضا، أن مَنْ يريد عن طريق تضخيم هذه الشوائب القليلة والعابرة إنكار وتشويه جبال الكفاحات الكثيرة والدائمة ضد الأسرلة والصهينة يشوّه الحقيقة. ومَنْ يرى في خطأ عابر خطيئة مميتة، يمارس عمليا الخطأ والخطيئة بحق تاريخ شعب وقيادته. هذا مع حفظ حقنا وحقه في نقد ورفض تلك الشوائب. .

وقع انشقاقان مركزيان في تاريخ الشيوعيين في البلاد. كان الاول سنة 1943، وعلى أساس قومي، وأسفر عن تشكيل "عصبة التحرر الوطني" كحزب للشيوعيين العرب. ووقع الثاني سنة 1965، وعلى أساس فكري – سياسي، وأسفر عن تشكيل "راكاح"- القائمة الشيوعية الجديدة التي رفضت انحرافات "ماكي" ( الحزب الشيوعي الاسرائيلي). يومها اعترف الثلاثي القائد لماكي (سنية، ميكونيس، فلينسكي) أنه تصهْيَن عمليا ولم يعد يحتمل "الانحراف" القومي عند الثلاثي المضاد (فلنر، طوبي، حبيبي) المذدنب لحركة التحرر الوطني العربية ولجمال عبد الناصر- حسب تعبير ميكونيس.

طالبتُ في السابق وأكرر مطالبتي اليوم بأن تقوم قيادة الحزب الشيوعي بالتلخيص الدقيق والوافي لهذين الانشقاقين. فلا يعقل مثلا الاستمرار بالسكوت عن حقيقة كوْن الانحراف الصهيوني عند سنيه وميكونيس قاد إلى شوائب استمر بعضها لسنوات بعد الانشقاق.

لكن تعالوا نفحص ممارسات هؤلاء الشيوعيين حتى في زمن انحراف بعض قادتهم من يهود تصهينوا (وبمعارضة حادة لهم من قادة يهود آخرين) منذ بداية الخمسينات حتى النصف الأول من الستينات. وكنت قد لاحظتُ من خلال مراجعاتي لاتهام الشيوعيين بالاسرلة والصهينة أن أصحابها يعتمدون على استشهادات مأخوذة في الاساس من مواد المؤتمر العاشر للشيوعيين بعد مصائب ومتاهات النكبة في تشرين أول 1948، ومن مواد سنوات قليلة تلتها. في تلك السنوات وحتى النصف الأول من الستينات عانى الشيوعيون من بعض انحرافات لدى فئة من القيادة. لكن تلك الانحرافات وحتى آثار النكبة لم تمنع الشيوعيين من اجتراح مأثرة البقاء، واعادة بناء الهوية القومية الجامعة للبقية العربية الفلسطينية االباقية في وطنها، وإفشال سياسة التجهيل والعدمية القومية، وإسقاط الحكم العسكري، والتصدي للتهويد، وصيانة اللغة والثقافة العربية، وإفشال الترحيل والرحيل الطوعي. ثمّ عندما نقيّم مسيرة قيادة وعلى مدى عقود من عملها، لا يجوز الاكتفاء بتصيّد هفوات في بداية المسيرة لم تكن هي الطاغية.

يومها، وفي العقد الاول للمسيرة، وقعت واقعة "العاشور". أرادت إسرائيل برئاسة بن غوريون أن تحتفي الناصرة العربية، ومعها عرب البلاد،احتفاء جماهيريا بالذكرى العاشرة لاستقلال إسرائيل- سنة 1958، والتي تصادفت مع الأول من أيار. أرادت أن تفرض هيمنة استعراضية لأعوانها وأتباعها العرب، وأن تعرض على العالم واقع أسرلة وصهينة عرب البلاد، رغم مجزرة كفر قاسم التي وقعت قبل سنة ونصف من ذلك التاريخ. ولهذا دعت وسائل الإعلام المحلية والعالمية إلى الناصرة لمعاينة العرب وهم يحتفلون باستقلالها. لكن كان الشيوعيون في المرصاد. أعدّوا العدة لتفجير هذه المسرحية. أصدروا منشوراً تحريضياَ جاء فيه "لا يمكن ان نرقص على جثث ضحايانا"، وذكرّوا بالنكبة. وخرجوا في مظاهرة غير مرخصة بمناسبة الأول من أيار، واقتحموا المظاهرة المرخصة لحزبي مباي – مبام وأعوانهما العرب. وكانت مظاهرة أحزاب الحكومة ستنتهي بمهرجان احتفالي وغنائي بمناسبة "عيد الاستقلال". لكن الشيوعيين انقضوا على مظاهرة الحكومة واخترقوا صفوفها وبعثروها. ثم هجموا على مهرجان العار بعشراتهم ومن ثم بمئات من مؤيديهم الذين انضموا إليهم، وهم يهتفون "لو هبّطت سابع سما عن حقنا ما بننزل" و"بن غوريون اطلع برَّة، الناصرة عربية حرَّة". وحطموا عصي أعلام إسرائيل على أيدي رافعيها، وكسّروا كراسي الحفل على أقفية الجالسين عليها، واشتبكوا بقوات الشرطة\ الحكم العسكري.

اسفرت الواقعة عن تفجير الاحتفال وعن عشرات الجرحى واعتقال (800) شيوعي وزميل لاحزبي من الناصرة وسائر بلدات الجليل، دام اعتقال ونفي بعضهم لشهور. وقامت بعدها النساء الشيوعيات من الناصرة وبلدات الجليل، ولأول مرة، بتوزيع صحيفة "الاتحاد" لأن أزواجهن وأولادهن واخوتهن...في المعتقلات و\أو المنافي داخل الوطن. فكلمة الحق في مواجهة الاسرلة والصهينة والارهاب  العسكري... يجب أن تصل البيوت. وعرف العالم بفضل ما فعله الشيوعيون يومها أن عرب البلاد لا يمكن أن يحتفوا باستقلال دولة قامت على أنقاض شعبهم وتضطهدهم وتميز ضدهم عنصريا. ولتخليد معركة التصدي هذه للسلطة الحكومية ولبوليسها تألفت وانتشرت الاهزوجة الشعبية: "ارض العروبة للعرب\ صهيوني شيّل وارحلي\ والناصرة ركن الجليل فيك البوليس مدحدلِ".

ولا تعرف غالبية اجيالنا الطالعة انه في النصف الثاني من الخمسينات جرت في البلاد موجة تحريض منفلت من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية ضد شيوعيين عرب بقيادة عضو مكتب سياسي من الروّاد المؤسسين بأنهم يخططون ويعملون سراً متأثرين بحرب الثوار في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، لفصل الجليل عن دولة إسرائيل وفرض تنفيذ قرار التقسيم عن طريق عصيان مدني ومسلح. إذ أن الشيوعيين كانوا يطالبون بحق تقرير المصير للعرب في البلاد حتى الانفصال، تنفيذا لقرار التقسيم. وجرى تصوير تفجيرهم لاحتفال العاشور على هذه الخلفية. واستعر التحريض ضد الشيوعيين العرب في البلاد بناء عليه.

ولا ننسى معركة "الهويات الحمراء" التي لم يخجل بعض "قوميي" سنوات الثمانينات من ذكرها كدليل على الاسرلة والصهينة (؟!)، إذ أن الشيوعيين قاتلوا للحصول على "الهويات الزرقاء". كانت إسرائيل تُصْدر ولسنوات أولى بعد النكبة هويات حمراء للعديد من أهل البلاد العرب بحجة كونهم "متسللين"(أي عائدون إلى الوطن) أو\ و غير محصيين أو\ و كورقة ابتزاز في يد الحاكم العسكري بهدف اخراس البعض وشراء ذممهم وتطويعهم. إذ أن الهوية الحمراء لا تضمن الاقامة الدائمة، وحاملها محروم من بعض الحقوق ومعرّض للترحيل.

خاض الشيوعيون، بكتلتهم في الكنيست، وبجماهيرهم في ساحات الكفاح، وبمحاميهم حنا نقارة، وبتجنيدهم لقوى ديمقراطية يهودية، معركة شعبية وقضائية ظافرة أسفرت عن إبطال الهوية الحمراء واصدار الزرقاء. فانتشرت يومها الاهزوجة الشعبية التي رددتها العجائز في الاعراس وانشدها الحدائون: "أويهه والله ينصركوا يا شيوعية، أويهة وانتوا اللي جبتوا الهوية"، و "نزلوا ثلاثة عتل ابيبي، فلنر وطوبي وإميل حبيبي، وهني اللي قالوا للشمس غيبي، بوسط الكنيست يهزون الكونَ"، و"حنا نقارة جاب الهوية، غصبن عن رقبة بن غوريونا"، و"حنا نقارة يا محامينا، الحمرا والزرقا على صرامينا" (والزرقاء أيضاً!).

 

الهوية القومية والوطنية

ليس الصراع الطبقي الحاد بين البروليتاريا والبرجوازية، في قريتي الفلاحية، هو الذي قادني إلى تقديم طلب انتساب للحزب الشيوعي في أواخر الستينات. وإنما حسي القومي الوطني العربي الفلسطيني وقراءتي ومعاينتي للرد القومي الوطني للشيوعيين على هزيمة – نكسة – حزيران 1967، وتصديهم لليل الأسرلة والفزع الذي انتشر بين العرب، هو الذي دفعني نحو مَنْ يعبّر عن هذا الحس وطنياً، ويخوض الكفاح بشجاعة دفاعاً عن حقوق شعبي القومية والمدنية. بعدها جاءت دراستي للفكر الشيوعي واقتناعي به. وأعتقد أن قصة انتمائي هذا هي  قصة الآلاف من المنتسبين الجدد للحزب الشيوعي منذ ما بعد النكبة إلى ما بعد النكسة وما بعد بعدها...

وخلال كل سنوات عضويتي في الحزب/ منذ سنة 1968 حتى سنة 1988( سنة استقالتي من الحزب)، لم أشعر أن الحزب قمع تطلعاتي القومية واالوطنية، بل أمدّها ببعد أممي ديمقراطي وإنساني وبنظرة اجتماعية تقدمية وحداثوية وبروح تفاؤلية.

القومية والأمة مُعطى مولود تَشَكّل في حقب مختلفة باختلاف الشعوب واختلاف مراحل تطورها. وهي ليست ايديولوجيا- نظرية. فالقومي فكريا قد يكون تقدميا ونهضويا أو رجعيا، اشتراكيا أو رأسماليا، ديمقراطيا أو ليبراليا أو دكتاتوريا. والشوفيني والنازي والصهيوني... قومي أيضا. وتوجد هويات فكرية مختلفة ومتناقضة أو متصارعة إلى حد العداوة احيانا، للهوية القومية الواحدة. ولا تولد الهوية القومية هكذا فجأة كما وُلد العالم من إصبع جوبيتر، أو كما خلق الله العالم في ستة أيام. وهي ليست وليدة لحظة ضغط إصبع على زر كهربائي في غرفة مظلمة... فيعمّ النور والنهضة القومية!

ولا تُبنى الهوية القومية عن طريق التنظير الأكاديمي والوعظ المنسلخ عن الممارسة الميدانية للجماهير ضمن الزمكانية وتاريخيتها. فالهوية القومية ورفع سقف تطلعاتها هو نتاج تراكم عقود وقرون من التطور والفعل. ولا يحق لأي قومي معاصر، من أي شعب كان، أن يدعي بأنه الباني للهوية القومية لشعبه وكأنه بدأ بهذا من فراغ. فهذه سجل لتراكمات الأفعال والذاكرة الوطنية. وعلى حد علمي إن أية حركة قومية لا تحترم الذاكرة الوطنية لشعبها ورموز هذه الذاكرة من قادة الشعب- حتى لو اختلفت معهم ايديولوجيا وسياسيا- تسيء لقوميتها ولتاريخ شعبها. وغني عن البيان أنه ما من وجود لهوية قومية للشعب بدون تراكم ذاكرته القومية والوطنية الجماعية.

كذلك، يثير استغرابي سقوط قوميين في سطحية ومسخرة رمي الشيوعيين بفرية تحقير الهوية القومية للعرب في البلاد وتدجينها. وإحدى إثباتاتهم "العلمية" على هذا هو تسفيههم للقومية ونعتهم وتسميتهم للقومي بالقومجي، على وزن الكندرجي (؟!). لقد جرى إطلاق لقب "قومجي"، وليس في بلادنا فقط، وليس من قبل الشيوعيين فقط، بحق المزاودين باسم القومية كثرثرة شعاراتية راديكالية ليس بالإمكان تحقيقها، وبدون وعي للبعد الديمقراطي والإنساني لها. لم يطلق الشيوعيون صفة القومجي/ الكندرجي، مثلا، على جمال عبد الناصر وأتباع الناصرية وسائر قوميي ثورات الاستقلال وحركات التحرر الوطني العربية، وعلى القوميين أمثالهم في بلادنا، وإنما شاركوهم داخل الجبهة وتحالفوا معهم خارجها.

ما من هوية قومية لشعبنا هنا مفصولة عن معركة البقاء، ومواجهة الحكم العسكري واسقاطه، وتخطي حاجز الخوف، ومقاومة السياسة العنصرية، واستلال حق العمل والتعليم، وإحياء التراث، ومحاربة العدمية القومية وسياسة التجهيل في مناهج التعليم، والهويات الحمراء، واقعة العاشور، وقبر سياسة "فرق تسد" والطائفية والعائلية، وتذويت هوية جامعة وتقدمية من ناحية اجتماعية.

وما من نضال لتحقيق ما ذكرناه في السطور أعلاه، وما من يوم مشهود أصبح معلما قوميا في تاريخ شعبنا وقاعدة انطلاق للمزيد من رفع مستوى تطلعاتنا القومية والمدنية، إلا وكان الشيوعيون العرب هؤلاء أول المبادرين والمـُنـَظـّمين له. من العاشور وأول أيار 1958 إلى تشكيل الجبهة الشعبية في أواخر الخمسينات وانتصارها في شفاعمرو وكفر ياسيف وانطلاق الشعار يومها: "تكفرسوا يا عرب"، إلى فضح مجزرة كفر قاسم |(29.10.1956) وما تبعها من نضالات، إلى الإضراب والمظاهرات يوم مقتل الشباب الخمسة على حدود هروبهم للعالم العربي (1961) وانطلاق الهتاف الشيوعي- القومي يومها: "الشعب العربي شعب حَي، دمه ما بيصير مَيْ"، إلى التظاهرات أثر وفاة جمال عبد الناصر (1970)، إلى انتصار جبهة الناصرة (9.12.1975) وانطلاق الشعار يومها لشعب باسره: "الناصرة انتصرت، كلنا على طريق الناصرة". إلى يوم الارض الأول (30.3.1976) الذي أعقبه تحرير 20 سلطة محلية عربية من رئاسات سلطوية أو عائلية أو طائفية مرتبطة بها، إلى تشكيل الجبهة القطرية للسلام والمساواة (1977)، إلى مؤتمر الجماهير العربية المحظور (1980-12-06)، إلى إضراب يوم المساواة (24.6.1987) ... الخ. هذا عدا عن المظاهرات الاحتجاجية والصدامية التي اعقبت كل حرب عدوانية إسرائيلية، أشهرها إضراب ومظاهرة الالوف والصدامات مع الشرطة اثر مجزرة صبرا وشاتيلا(1982).

ومَنْ مِنْ أبناء شعبنا الوطنيين، من الشباب الناضج ومن متوسطي العمر، لا يتذكر أنه سمع، وربما لأول مرة، كلمات التحدي القومي والوطني في نادٍ أو محاضرة أو اجتماع شعبي أو مهرجان أو مظاهرة أو أمسية ثقافية عامة أو شعرية نظمها الشيوعيون وتكلموا فيها. أما عن صحف الحزب "الاتحاد"، ومجلة "الغد" للشباب، ومجلة "الجديد" للثقافة والآداب... فيصعب إيفاء دورها في بلورة هويتنا القومية والثقافية.

قيل وبحق عن تلك الصحف إنها الصف المدرسي الثالث عشر الذي صحح وأغنى ما تعلمناه في الصفوف حتى الثاني عشر. كانت تلك مدرستنا الوطنية وجامعتنا الثقافية، بل وزارة المعارف القومية لشعب بأسره عانى من التخطيط المنهجي لطمس وتشويه ثقافته ومنع مواصلة تعليمه الاكاديمي. وحارب الشيوعيون حتى هذا، أولاً بنشر وإبراز التراث والثقافة العربية، وثانيا بخوض نضال متواصل لفتح مدارس ثانوية للعرب والنضال لإصلاح مناهج التعليم وجعلها ملائمة للهوية العربية، وثالثا لفتح أبواب الجامعات الاسرائيلية ومعاهدها العليا أمام العرب وعلى قدم المساواة. وأشير هنا أيضا إلى إرسال آلاف الطلاب العرب للتعليم الأكاديمي في الدول الاشتراكية وضمان عودتهم للوطن وخدمة شعبهم. وفي مخيمات العمل التطوعي منذ النصف الثاني من السبعينات وعلى مدى الثمانينات، والتي بدأت في ناصرة الشيوعيين والجبهويين، تعلمنا ومارسنا الخدمة الوطنية لتعمير الوطن وبناء ذواتنا الاجتماعية والثقافية الجماعية.

وفي صحف الشيوعيين قامت الدنيا ولم تقعد على رئيس الحكومة الاسرائيلية رابين حين صرح، عام 1976 بعد يوم الأرض، أن العرب في البلاد مجموعات إثنية لعائلات وطوائف وليسوا قومية ولا تحق لهم أية حقوق قومية، وإنما حقوق ثقافية مدنية (وكان هذا رداً على إبراز الشيوعيين للانتماء القومي للأقلية العربية ولحقوقها القومية والمدنية بناء عليه). وفي تلك الصحف، وفي برامج مؤتمراتهم، قرأنا عن الحقوق القومية والمدنية لشعبنا. ومن خطاب قادة الشيوعيين سمعنا: "هذا وطننا الذي لا وطن لنا سواه"، ولن نرضى في هذا الوطن إلا "بالمساواة ولا أقل من المساواة". و"لسنا فدرالية طوائف وعائلات وإنما نحن البقية الباقية في وطنها من أهل البلاد الأصليين وجزء لا يتجزأ من الشعب العربي الفلسطيني" و" مع شعوبنا العربية ضد الإستعمار وليس مع الاستعمار ضد الشعوب العربية" و"لا ندّعي أن شعبنا هو أفضل شعوب الارض ولكن ليس هناك من شعب أفضل من شعبنا، وإن خُيّرنا أن نولد من جديد لما اخترنا إلا أن نولد عرباً فلسطينيين"، و"لسنا غرباء ومهاجرين ودخلاء، ولا رعايا. لقد دخلنا هذه البلاد من أكثر الطرق وشرعية... من أرحام أمهاتنا".

وفي مظاهرات الشيوعيين ردّدنا هتافاتهم: "جليلنا مالك مثيل وترابك أغلى من الذهب، ما بنرضى بالعيش الذليل، لو صرنا لجهنم حطب" و " نادى المنادي في الجليل، أرض العروبة للعرب، صهيوني شيّل وارحلي" و"صهيوني اطلع برّة، الارض العربية حرّة" و"يا بيغين ويا شارون، هذا وطنا وإحنا هون"...الخ الخ.

ولا أعرف كيف يمكن الحديث عموماً عن الهوية القومية الثقافية والأدبية وعن الأدب القصصي والشعر الفلسطيني، وحتى العربي عموما، بدون ذكر نتاج الأدباء والشعراء الشيوعيين العرب للبقية الباقية في وطنهم: إميل حبيبي وتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم ومحمد نفاع وسالم جبران وغيرهم وغيرهم ( مع الاعتذار عن ذكر كل قائمة الأسماء الطويلة). لقد بثّ هؤلاء الكتاب الشسوعيون، عن طريق أدبهم ومقالاتهم السياسية، النار في رماد روح قومية خلفتها هزيمة حزيران في العالم العربي كله، من محيطه إلى خليجه. "أدب وأدباء المقاومة"- هكذا جرى تقييمهم في العالم العربي، وأولاً على لسان غسان كنفاني. ورؤوا في أدبهم "ميلاداً جديداً وتمردّاً وثورة". ونظم لهم نزار قباني: "يا مَنْ تبرون على الاضلاع الأقلاما، نتعلم منكم كيف نفجّر في الكلمات الألغاما". اما جيلنا فقرأ "السداسية وقصص أخرى" و "المتشائل"، واستمع في مهرجان الشعر لقصائد "سجل أنا عربي" و "خطاب من سوق البطالة" و " باقون"... ومئات أخواتها من قصص وقصائد، واحسّ أن نعالة أعلى وأقوى من دبابات وطائرات صنعت الهزيمة-"النكسة" - الحزيرانية للعرب في ستة أيام. هكذا تُبنى الهوية القومية، لا شعاراُ وإنما ممارسة وتحدياً وتصدياً وإصراراً على الكرامة القومية والوطنية.

ولهؤلاء الشيوعيين الروّاد تعود براءة وضع شعار "كرامة وخدمات". بمعنى أنه لتحصيل حقوقك وخدماتك المدنية عليك أن تصون كرامتك القومية وتتصرف كشعب حتى تحقق حقوقك كشعب. أما من يتبع طريق الاستجداء والذل والعمالة فسيخسر الامرين: الكرامة والخدمات. "منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي، في كفي قصفة زيتون، وعلى كتفي نعشي"- ردّدنا وحفظنا عن ظهر قلب، وفعلنا!

هكذا، ومن خلال ما ذكرناه أعلاه، تعززت الهوية القومية الديمقراطية لشعبنا وارتفعت وتصعّدت وتائر وأدوات وسقف نضالاتها وتطلعاتها. لكن هذا لم يمنع البعض من اتهام جيل الشيوعيين العرب الرواد ومن رافقهم، بتدجين العرب ومنع رفع سقف تطلعاتهم القومية. وعلى سبيل المثال لا الحصر: لم يشكل الشيوعيون نقابة خاصة للعاملين العرب ودخلوا الهستدروت. ولم يشعلوها انتفاضات وعصيانا مدنيا هنا واكتفوا بالتضامن معها في الضفة والقطاع ودعموها إغاثة ومعنويا وسياسيا فقط. وأدانوا لجوء بعض شبابنا هنا إلى أدوات مقاومة مثل التي هناك عند شعبهم تحت الاحتلال. ولم يعلنوا ويطبقوا الاستقلال الذاتي الثقافي لشعبنا هنا... إلخ.

لن أفند في مقالي هذا عدم إمكانية ولا نجاعة تطبيق مثل هذه الأدوات النضالية، الصالحة والشرعية هناك، لدى أقلية قومية داخل إسرائيل. أقلية لا تتمتع باستقلال ذاتي اقتصادي واجتماعي، ولا بتواصل جغرافي شبه مستقل، ومرتبطة كليا بالاقتصاد الإسرائيلي وخدماته. وأكتفي بالإجابة التالية: لقد عبّد لنا الشيوعيون الطريق. وشعبنا تغيّر كمـّاً وكيفا واغتنى بتجربة كفاحية امتدت على مدى ستة عقود سابقة، وبنى له مؤسسات وأطر تمثيلية، وتعددت أحزابه أيضا، بما فيها القومية والإسلامية. فليتفضل الزملاء النقاد القوميون الراديكاليون والإسلاميون الأصوليون بالتنفيذ والتطبيق الفعلي والميداني لكل تلك الادوات والوسائل المذكورة أعلاه لتحقيق التطلعات القومية ذات السقف العالي. لن يستطيعوا هذا لأن ظروفنا وإمكانياتنا لا تتيح ذلك، رغم أنها أفضل بما لا يقاس من ظروف الأمس. ورغم هذا يستمر بعضنا باتهام الشيوعيين بالأسرلة والتدجين لعدم تنفيذهم لها بالأمس.

مثال هؤلاء كمثال "أولاد" نزلوا للعب على "البسكليتات" على شارع معبّد. كان الحي محاصرا بمنطقة وعرة ظهر أن لا مخرج منها. وأحست أقلية سكانه الباقية فيه بالاختناق، وكاد اليأس يهدّها. جاءهم غرباء وقايضوهم: إما أن ترحلوا وتلحقوا بأهلكم خارج منطقة هذا الحي، وإما أن تنسوا الحي وتاريخه وانتماءكم له، وتأتوا للعمل عندنا خدما، فتكسبوا بعض فتات موائدنا. "إيـّاكم"- صرخ بعض شباب الحي – بل اسمعونا وأعينونا على إعانتكم. أتى الشباب بكل ما طالت أياديهم وإمكانياتهم وظروفهم من معرفة وأدوات عمل، من تثقيف وتحريض ومقصات التقليم ومعاول الحفر... حتى البلدوزرات. جندوا الناس وقصّوا واخترقوا الجبل. حطّبوا وعْره، وفتتوا صخوره وأزالوا أشواكه ونباتاته البرية السامة والضارة. جففوا أوحاله، وسدوا مطباته. حفروا الطريق حتى ظهرت معالمه، سقوه بالماء ودعكوه حتى استوى مستقيما وصلبا. عبّدوه... فإذا به شارعا عريضا واضح المعالم يقود إلى إمكانيات وآفاق وواحات جديدة. فرح الأبناء ونزلوا للعب على الشارع بدراجاتهم.

وإذ بقلة أولاد من هؤلاء الأبناء ينشغلون بأمور تعميهم عن حقيقة وواقع فتح الشارع وتعبيده. فلماذا تأخر فتحه، ولماذا فـُتح بتلك الأدوات والوسائل وليس بغيرها، ولماذا هؤلاء الآباء هم الذين فتحوه، وهل ضايقوا آخرين ومنعوهم من فتحه، ولماذا اكتفوا بهذا السقف الطولي والعرضي والارتفاعي لامتداد الشارع؟!

لا أقول إن نقـّاد جيل الشيوعيين العرب الرواد مجموعة اولاد تركب البسكليتات وتتطاول على بلدوزرات فتحت وعبدت الشارع وأتاحت لها اللعب. ولا أقول أنه لا تجوز أو تحق المراجعة النقدية للطريق الذي اجترحه وعبده شعبنا، والعمل على تطويره. فهذا أمر مطلوب من الجميع، بمن فيهم الشيوعيين من مواصلي طريق الآباء الرواد. لكن المراجعة النقدية تكون أسلم وأصدق وأكثر إفادة لشعبنا، إن كانت أكثر موضوعية وأقل تجنيا.  

وأضيف، أنا اللاشيوعي، فأقول إن التنكّر للشيوعيين الرواد ولدورهم الطليعي في تاريخ كفاح الجماهير العربية الفلسطينية في بلادنا والذي يصل أحيانا عند البعض إلى حد التخوين، يكاد يضاهي التنكر لوجود وبناء حركة وطنية للبقية الباقية في وطنها. 

888
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

جاري التحميل