مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

دموع الرجال وعود - لذكرى الأستاذ تيسير جميل إلياس - كفركنا

5.00 - (1 تقييمات)
نشرت
1941
مشاهدات
1
تعليق

ابلاغ Report

دموع الرجال وعود - لذكرى الأستاذ تيسير جميل إلياس - كفركنا

ضمنّي إلى صدره. يداه أحاطتا بخاصرتيّ. رأسه لامس وجنتي. بعض الكلام أطلقه من حنجرة تعثَّرت، غصَّت كما تغصُّ حناجر الرجال عندما يدمي قلبَها العدم.

 

في الماضي قابلته مرارًا، لكنني لم أشعر أبدًا بما شعرته من دفء وصدق وحفاوة حارقة، فمَسَحَت وجنتِي بقايا دمعةٍ سالت على خدِّه.  

سنراك في صباح العيد القادم يا أبا إياد قلت بهمسٍ قطَّرتُه في أذنه. طبعاً، بشرط أن تكون أنت هناك، أجاب وبكفيّه عصر ما بقي من ذراعي عنده.  

طبعاً سأكون هناك. في كفركنا سأكون كما في كل عيد ميلاد منذ ثلاثة عقود، حين صاهرتُ من أصبح عندي أعزَّ الأصدقاء وأوفى البشر. معلمًا، حكيمًا، نديمًا وسليلَ عائلةٍ غصنها تيسير والمنبت جميل.  

كفركنا، بيتي الثاني ومحطتي اللازمة. في كل مشوار أشدُّ إليها رحالي والعائلة، من القدس إلى الجليل. عرفتها، قبل أن أصاهرها، كما عرفَتها العامة. قرية حفلت بعرس فرَّح فيه السيد المسيح أصحابه، وخلّد الموقع والواقعة في عرسها، عرس قانا، الذي ما زال يستقطب ملايين الحجاج ليتباركوا وليتزوَّجوا.  

عرفتها برمانها وعيون حواريها، كما أجاد لسان أبي جعفر، إبراهيم طوقان، في وصفها. وعرفتها في دموع أمهاتها/حرائرها حين بكين شهداء أسقطتهم نيران البطش والحقد في يوم ضمّها لؤلؤةً بعقدٍ زيّن الأرضَ والكرامة العربية.

  ثم عرفتها من ذلك البيت الوديع، الذي توسط بعضًا من أشجار الزيتون وجاور عين مائها، التي بعدما جفّت، رحلت ضفادعها فحُرمنا نقيقها وما استدعاه من سهر وتندر.  

في بيته/بيتنا كان الدفء حميميًا، عائليًا، مشبعًا براحة واستقرار. لم نعِ، ونحن نعيش الحالة ونتماهى بها ومعها، أنه كان السبب والمسبِّب، الشعلة والمشعل، لكل ما ساد ولما وفرّه لبيته وعائلته القريبة وأبعد، من درع ومظلة.

ثلاثة أيام في قاعة ملاصقة للكنيسة، جرداء عذراء، شكَّلت حلاّ لألوف وفدوا إلى بيت العزاء، عرفتني مجدداً بكفركنا وبعزيزها الذي رحل.  

هناك في القاعة الرحبة، جلس أبو إياد مع أبناء العائلة ليتقبل التعازي، فقد كان الراحل أبو الجميل أخًا له لم تلده أمه. عارف الحمدان، وجه من وجوه كفركنا والمنطقة وابن لعائلة كبيرة المقام، حاصر دموعَه وبصوت عالٍ أجشَّ خبّرنا أن فقدان الراحل خسارة للكناويين جميعهم وأكثر. يداه مُدّتا للخير دومًا. راجح العقل، حكيماً حازماً شجاعاً وأميناً، كان. عاش عزيزًا ومات بكامل عزته وإصراره، وهو الذي لم يكن عالةً على أحد ورفض أن يكون.  

حكى أبو إياد وكم حكى.. ففي بلدة مثل كفركنا، وهي كأخواتها من سائر البلدات، تعاني مما تفشَّى من ظواهر العنف والاحتكاكات على تنوع خلفياتها، رجال كأبي الجميل شكَّلوا صواعق لولاها لناء المجتمع تحت حمم ونيران، كثيرون يبغون ويسعون لإشعالها.   

رجلٌ تأسّى على رجلٍ، لكنّه جاهر ووعد أن يبقى وآخرين من أهل المروءة والخير، على طريق الراحل. فكفركنا، لن يحمي وحدتها ولن تأمن سلامتها إلا بكبار نبلاء، يجيدون الحزم ولا يظلمون، يرجِّحون العقل ولا يعسفون، ويجيرون صاحب الحق مهما كان ضعيفًا.   

لم يكن الحديث رثاءً، بل شهادة عزِّ لكبير رحل وعزاءً لمن بقي على الطريق.  

الأستاذ تيسير إلياس، معلم من جيل فيه وعنه أمرَنا الأمير أن نقف لهم رسلاً. سيلٌ من القصص رواها الوافدون عن ذلك المعلم الذي علّم ما يقارب الخمسين عامًا. أترابه كانوا هناك، وطلابه كذلك. كلهم تحدث وتندر عن ماضٍ مشرِّف لرجلٍ مثّل مهنة/رسالة رثيت ورثي لحالها في أيامنا وبقي العزاء بسيرة من رحل، وبزملائه وأقرانه، فلهم طول العمر والعطاء. أيام العزاء تفيض تعباً وإنهاكاً لكنه تعب يريح وأنهاك يسير.   

كانت القاعة ملأى، حين دخلها شيخ تقدم مجموعة من الرجال والشبان. شيخ بلباس عربي. نحيل الجسم، رافع القامة والهامة يمشي ببطء مَن وثق وخبر حكمة السنين. وقورٌ. بدا عليه الحزن وبعض من تعب.  

وقف وصحبه أمام أهل الراحل فبكى وأبكى الجميع. الشيخ ناجي الخطيب، أبو عاطف. مجايل لأبي الجميل. صديق صدوق. معِّز وعزيز. سنوات اتكأ واحدهم على الآخر. شيخ تعهد ووعد أن يبقى على الطريق ويحفظ سيرة ومسيرة من رحل، فهكذا يصان ود ويعافى مجتمع.  

أدهشني جلال الدمع في عيني هذا الكبير. عرَّفوه عليّ صهراً للراحل، فاستذكر وتذكر ماض التقيته فيه. شد على يدي وقال: والله يا أستاذ ثكلت هذا الأسبوع اثنين من أقربائي الأقرباء، جئناكم من بيت عزائنا، لكني أؤكد لك أن أبا الجميل في كف وأعزائي في كف…. أيصح الكلام بعد هذا الدر؟.  

أحببتكِ يا كفركنا أكثر. أحببتكَ يا أبا الجميل أكثر. بكيت عليك، وبكيت لأنك لم تسمع ما قيل وما وُعد. بكيت وبكى الأصدقاء والأحباء، فلقد كانوا معنا وسمعوا، أبو سليمان، أبو مفيد، الأستاذ نظمات أبو إياد، أبو سليم وأبو العارف الذي حاول أن ينطق بما عرف وخبر، فكنتما رفاق عمر ودرب، فسبق الكلامَ الدمعُ وجاء الوعد بحفظ الأمانة والسيرة والمودَّة.

ثلاثة أيام بكى من بكى فيها على كبير رحل، وبكيت أنا على سند ورفيق وأب ومعلم. ثلاثة أيام أعادت فرح ذلك العرس. موت رجل صالح، أتت ساعته، يحيي نفوس الصالحين. جسد ووري ثرى بلدة أحبها وخدمها، فجاءت دموع الرجال وعودًا تصونها من كل شرٍ ومتربص. 

ثلاثة أيامٍ عدتُ بعدها إلى بيت يتوسط أشجار زيتون، حفيف أوراقها يخالط نحيبا خفيّا لذرية وأحباب وأبناء عم، استعسروا التعود على غياب عميدهم. لكنهم، بعادلهم ونبيههم ومنيرهم وجمالهم، هناك، في عرس قانا، باقون.

1941
مشاهدات
1
تعليق

ابلاغ Report

جاري التحميل