مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

أعطني باسبورتي، أطلق يديّ - بطرس منصور

5.00 - (2 تقييمات)
نشرت
1004
مشاهدات
1
تعليق

ابلاغ Report

أعطني باسبورتي، أطلق يديّ  - بطرس منصور

الاْيام التي تسبق السفر للاستجمام أو للعمل هي أصعب أيام السنة وأكثرها مشقّة وتعبًا. إذ حين يقترب موعد السفر أراجع عادة بقلق، المهامّ الملقاة عليّ، ويصيبني فيروس الرغبة في إتمامها في الاْيام المعدودة المتبقية حتى السفر. إنها مهام ما فتئت مكدّسة تنتظر منذ أسابيع أن ألتفت إليها وأنا عنها مشغول. لكن الفزع من أن تنتظر لمدة اضافية خلال غيابي لأسبوع أو أكثر في سفر، تقضّ مضجعي فأعمل كالمحموم في الوقت القصير المتبقي قبل السفر على إكمالها.

عاونت زوجتي في حزم أغراضي في حقيبة السفر المتهرئة، ثم ودّعت عائلتي بعد أن قدمت النصائح والتوصيات والتنبيهات اللانهائية. خلدت لنوم قصير ريثما يأتي التاكسي الموعود في الثالثة صباحاً ليقّلني للمطار. هذا النوم القصير يزيدني تعبًا. في كل مرة أسافر في ساعات الليل أعد نفسي بأن تكون آخر مرة اسافر ليلاً. يهيمن ظلام دامس وهدوء على أجواء الناصرة في هذه الساعة المبكرة. السائق يقظ ونشط، ولأول وهلة وجدت صوته أعلى مما تسمح به سكينة وصمت ليل في ساعة كهذه. جلست بجانبه وسعدت انه لم يمطرني بالأسئلة ولا يوّد تجاذب أطراف الحديث ليبقى صاحيًا. اذ أردت جولة ثانية من النوم في التاكسي وفعلاً تم لي ذلك. افقت واذا بنا على مشارف المطار. ودّعت السائق وهرولت مع أغراضي تجاه أحد المداخل.

سحنتي الشرقية السمراء فضحتني، فهذا رجل أمن شاب، لربما زاد عمره عن عمر ابني بسنتين، يطلب مني بأدب التوقف ويسألني بالعبرية: من أين أتيت؟ للوهلة الاولى أردت أن أجيبه كإيليا أبي ماضي بأني:" لا اعلم من أين لكني أتيت، وقد أبصرت قدامي طريقاً، فمشيت"، لكني أحجمت. فاذ كيف تترجم تلك العبارة للعبرية دون أن تفقدها جمالها. ومن ثم قد يظن رجل الأمن أنها عبارة لها مدلولات وطنية خطيرة على الأمن، وتعبر عن أشواق لاجئ أتى من العدم بعد أن فقد وطنه وبات يمشي في طريقه للكفاح ... بدل هذه الفلسفة الفارغة أجبت: " من الناصرة". كان بإمكاني أن أقول "نتسيريت عليت" (أي الناصرة العليا وهي مدينة يهودية أسكن فيها كأقلية عربية غير مرغوب فيها بجانب الناصرة). لربما كان ذلك أسلم ولكني لم أفعل. طلب أن أضع أمتعتي جانباً فانصعت. ثم وجّهني لجهاز فحص وجود الأجهزة المعدنية على جسمي والتي على شكل قوس. مررت من تحت القوس... لم يُسمع صفير وأعلن النصر. يحيا العدل! حملت أغراضي ودخلت المطار متوقعاً الاسوأ. فإن كانوا قد أوقفوني حتى قبل دخولي لباحة لمطار- فإنهم بدون شك سيفحصون أمتعتي في الداخل أدقّ فحصٍ، وسيجرون معي تحقيقاً ملقين عليّ أسئلة سخيفة تتكرر بطرق عديدة ومن جوانب متعددة.

 قلائل يقفون في طابور المتوجهين للسفر الى  لندن في هذه الساعة المبكرة. تجري الموظفة الناعسة فحصًا روتينيًّا للجواز، وتطلب تحويل الاْمتعة الى الشريط المتحرك الذي يُدخل حقائبي إلى فوهة ماكنة الأشعة. كالمتوقع يتم توجيهي بعد خروج الحقيبتين من فوّهة الماكنة، الى  قسم الفحص اليدوي الدقيق للأمتعة.

كالمغلوب على أمره وكمن توقع الأسوأ، توجهت متثاقلاً الى هناك . يبادرني رجل الامن هناك بسؤال قبل أن يفتح الحقائب: هل في حقيبتك كتب؟ أجبته بالايجاب. فسألني: أية كتب؟ أجبته بعد تردد وبصدق: نسخ من كتاب ألّفته أنا. فصرفني للتو بالكلمات " رحلة آمنه" حتى بدون فتح حقيبتي.

لم أصدّق . حملت أغراضي وأسرعت تجاه كشك التذاكر قبل أن يغيّر رأيه. إنهم فعلاً شعب يقدّس الكتاب- أهل كتاب بجد وحقيقة! كوني مؤلفًا لكتاب عملت مفعولاً سحرياً حتى على رجل أمن جلّ مطالعاته ينحصر في أسماء المسافرين وجوازاتهم. تذكرت ما قرأته عن استفتاء يشير أن المواطنين في إسرائيل هم من أكثر دول العالم قراءة، ولا شك أن هذا من عناصر تفوقها النوعي على شعوبنا العربية.

مررت بمحطات الفحص الاْمني بسلاسة غريبة وخلال ربع ساعة على الأكثر منذ وصولي المطار كنت في باحة الانتظار عند نافورة المياة ومحلات السوق الحرّة (الديوتي فري) التي تتوسل اليك لتزورها. رقم قياسي! شكراً يا رب.

ساورني شك ان هذه السرعة والتوفيق كانا مشبوهين. هل ستظهر الكاميرا الخفيّة الآن ليضحكوا على حسابي ويشمتوا من سذاجتي إذ ظننت أنني سلمت. انتظرت برهات عديدة ولم تظهر كاميرا خفية. أيقنت أنني حرّ طليق أنتظر موعد طائرتي بعد ساعتين! فتوجهت لجناح الطعام الجديد لأقتني كوباً من القهوة لينفضّ عني ما تبقى من نعاس.

1004
مشاهدات
1
تعليق

ابلاغ Report

جاري التحميل