• محاكمة قيافا ليسوع: محاكمة غير عادلة، اين نحن منها؟ - د. رلى خوري منصور
محاكمة قيافا ليسوع: محاكمة غير عادلة، اين نحن منها؟  - د. رلى خوري منصور

محاكمة يسوع تمت تبعًا لنظامين قضائيين: دينيًا أمام قيافا والسنهدريم ومدنيًا أمام هيرودس وبيلاطس، ولكل من هذه الأنظمة إجراءات وقوانين خاصة بها. في هذا المقال ساتأمل بمحاكمة يسوع دينيًا أمام قيافا والسنهدريم وبعد ذلك سأعرض بعض التحديات التي نواجهها اثناء نزاعاتنا و"محاكمتنا" لإخوتنا.

يعتبر السنهدريم المحكمة العليا للأمة اليهودية. ويتكوَّن السنهدريم من 71 عضوًا، ويرأسه رئيس الكهنة واسمه في عهد تلك المحاكمة قيافا. في أحكامه وإجراءاته القضائية يتبع السنهدريم تقاليد الشريعة اليهودية التي كانت تهتم بالعدالة وقدسيّة الإنسان. لكن للأسف، كانت محاكمة يسوع أمام قيافا والسنهدريم من الناحية القضائية فشلا ذريعًا، وبعيدة كل البعد عن العدالة، ضد الرحمة والقانون وقدسيّة الإنسان، وأُرتُكِبَ فيها القتل عمدًا وبلا شفقة. لقد انتهك قيافا الشريعة التي ائتُمن على حمايتها وتطبيقها اذ تخلّلت محاكمته ليسوع إجراءات باطلة وظالمة ومناقضة للشريعة: 

1. محاكمة ليليّة وإدانة فوريّة - حكم مسبق: حسب الشريعة، إن المحاكمات الخاصة بجرائم النفس تبدأ نهارًا وتختم في النهار أيضًا. كما يجوز الانتهاء من المحاكمات في جرائم النفس في نفس اليوم، إذا صدر الحكم بالبراءة، وإنما يجب تأجيلها الى اليوم التالي إذا كان الحكم بالإدانة. لذا، فإن العجلة في محاكمة يسوع كانت اعتداءً جسيمًا على قوانين الشريعة اليهودية، اذ اعتُقل الخميس الساعة 12 ليلاً، وحوكم أثناء الليل، وأُدين بنفس الليلة بدون أن يُؤجل النطق بالحُكم إلى اليوم الثاني، خلافًا لما تقضي به الشريعة. ثم سُلّم يسوع في الصباح الباكر إلى الحاكم الروماني الذي صادقَ على الحُكم وصُلب يسوع الساعة 9 من صباح يوم الجمعة. تم اعتقاله ومحاكمتة واعدامه خلال 9 ساعة! لقد أُصدر حكم مسبق لقتل يسوع حتى قبل تقديمه إلى المحاكمة.

2. تعذيب يسوع أثناء المحاكمة: حسب الشريعة، فإنّ ضرب المتهم وتعذيبه خلال محاكمته وقبل إدانته يُعتبر غير قانونيّ. ظل يسوع صامتًا خلال محاكمتة ولكنه قطع ذلك الصمت بعتاب لطيف لمن تولّى الحُكم عليه، فأهانوه لإجابته، وضربوه على وجهه خلافًا للشريعة. أما هو فوبخهم بمحبة وقال لهم: "إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَنًا فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟!"(يوحنا: 23:18).

3. إحضار شهود زور: حسب الشريعة اليهودية لا يُقدّم أحد إلى المحاكمة إلا إذا قامت الشهود بإثبات جريمته. وإلى أن يؤدوها علانية، لا يعتبر الشخص بريئًا فحسب، ولكن غير مُتهمٍ أيضًا. وكان يُشترط للبدء في المحاكمة اتفاق شاهدين على الأقل في الاتهام بعد أداء اليمين الذي حتّمته الشريعة؛ حيث سيكون دم المتهم ودم ذريته في رقبة الشاهد زورًا. بالإضافة إلى المحاكمة الليليّة غير القانونية، يحاول رؤساء الكهنة والشيوخ وغيرهم من السنهدريم العثور على شهود زور لتثبيت التهمة ضد يسوع لكي يقتلوه. إن اتهام يسوع لم يكن قانونيًا، بل لم يكن هناك ما يُتّهم به، حتى في الأمر الذي كاد يتفق الشهود في نسبته إليه، وهو قوله إنه يستطيع أن يُنقض هيكل الله ويقيمه في ثلاثة أيام. ولذلك انعدم الشرط الأساسي لتقديمه للمحاكمة قانونيًا وطبقًا للشريعة، وكان يجب وقف المحاكمة حالاً. 

4. إدانة يسوع بناءً على استجوابه: لا تحكم الشريعة على أحد بالموت لمجرد اعترافه. بل أكثر من ذلك، إذ جاء أنّ من القواعد الأساسية للعدالة ألّا يتضرر أحد بما يصدر منه من كلام أثناء محاكمته، وأن استجواب المتهم واتهامه على مقتضى إجاباته أمران يمسّان بأصول العدالة والشريعة. لقد ارتكب قيافا أمرًا آخر يخالف الشريعة حين استجوب يسوع: "أستحلفك بالله الحي؛ هل أنت المسيح ابن الله؟ّ" فأجابه يسوع: "أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاء" (متى 26: 63-64). واتخذ قيافا من هذا الاستجواب ذريعة لاتهامه. وكان هذا الاتهام في الواقع حُكمًا بالموت. مزق قيافا ملابسه وأنهى المحاكمة بأن صرح انه: "مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ" (متى 65:26). وقد انطوى تحت هذه العبارة كلّ مظاهر الاستخفاف والطعن بقوانين الشريعة والمحاكمة العادلة. ثم حكم بالموت على يسوع بعد ان تخلّت محاكمته عن الضمانات الشرعية.

لا شك ان يسوع شكّل تهديدًا لزعماء اليهود وتعاليمهم؛ فقد خرج مع الخطاة وشفى المرضى وبارك الناس حتى النساء والأطفال وغير اليهود، وكسر قواعد السبت وانتقد السلطات الدينية وقلب كل الموازين الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية. لكن هل هذه الاعتبارات تبرّر اعتداء قيافا والسنهدريم على تقاليد الشرعية، وتمزيق العدالة وانتهاك قدسيّة الانسان والقضاء؟! كيف استطاع الشخص المسؤول عن تطبيق الشريعة انتهاكها بهذه الطريقة البشعة؟ هل هذا يليق بمركز هذا الشخص ووظيفته؟ هل هذه الظواهر اقتصرت على حافظي الشريعة في ذلك الوقت؟ ماذا معنا نحن حافظي الإيمان في أيامنا هذه؟ هل نعتدي نحن على "شريعتنا" المسيحية اثناء نزاعاتنا مع إخوتنا و"نحاكمهم" بطريقة غير عادلة؟ 

بعد أن تأملنا بانتهاكات قيافا للشريعة أثناء محاكمته ليسوع سأقدم بالمقابل التحديات التي غالباً ما نواجهها أثناء نزاعاتنا مع إخوتنا وكيف تكون احياناً "محاكمتنا" غير عادلة عندما نصدر أحكامًا مسبقة وإدانة فورية ونشوّه صورة الخصم ونفكّر أفكار "زور" عنه ونستجوبه بهدف الإدانة:

1. إدانة فورية وأحكام مسبقة عن الخصم: إن الاحكام المسبقة نادرًا ما تؤدي الى مواجهات بنّاءة وحل النزاع. إذا أردنا النجاح فعلينا أن نعامل الشخص الآخر على أنه بريء وأن نتجنّب محاصرته في الزاوية ومعاملته كمتهم، وأن نكون على استعداد تام للإصغاء بعناية وسماع وجهة نظره. إن إحدى الطرق لتعزيز المواجهة البنّاءة هي أن نفكر في الأخرين بإيجابية إلى أن يثبت لنا العكس. فحينما قال الرسول بولس أن المحبة "تصدّق كل شيء" (1كورنتوس 7:13) فهو لم يطلب منا تجاهل الحقائق السلبية بل يقصد عدم التفكير في الآخرين بطريقة سلبية، إلى أن يكون هناك أساس متين لذلك. إذا لم نفعل ذلك فسوف يشعر الناس بأنّنا قد حكمنا عليهم مسبقًا.

2. تشويه صورة الخصم حتى قبل أن "تثبت إدانته": في تعاملنا مع النزاع نميل الى التركيز على صفات خصمنا السلبية ورؤية أخطائه بعدسة مكبّرة والتغاضي عن فضائله. وكلما تشوّهت نظرتنا لخصمنا أكثر، كلما زاد احتمال أن نتخيل الأسوأ عنه. وقد يقودنا هذا الى إساءة الحكم بالكامل على قيمه ودوافعه وأفعاله. وعادة ما تؤدي النظرة السلبية للخصم الى المرارة والإمعان في جراحنا وآلامنا. إذًا، كيف نتغلب على التحامُل ضدّ خصمنا؟ أفضل طريقة هي أن نفكر عن قصد في صفاته الإيجابية والجديرة بالثناء. إن هذا لا يعني أن نحصر تفكيرنا في الامور الإيجابية لديه حيث أنه من المهم مواجهته بخطئه وحثّه على التوبة (غلاطية 6: 1-2)، لكن الهدف هو ألّا نستسلم لميلنا الطبيعي للتركيز على الجوانب السلبية، ونستعيد نظرتنا المتوازنة عن الشخص. يحدث أمران مهمان حينما نبدأ بتذكر الصفات الإيجابية في الشخص الآخر: (1) ندرك مقدار خسارتنا إذا لم نقم بتسوية الخلافات بيننا. إنّ التركيز على نقاط الخلاف دون الالتفات الى الأوقات الجميلة التي قضيناها معًا، فسوف تتضرر الكثير من العلاقات الزوجية والصداقات وعلاقات العمل. لذلك فإن تذكر الجوانب الإيجابية يمكن أن يكون دافعًا لحل النزاعات. (2) إن التفكير السليم يمكن أن يكون معديًا للشخص الآخر. إذا ركّزنا واعترفنا بصفاته الحسنة فمن المرجّح أنه سيفعل نفس الشيء بالمقابل وتبدأ النوايا الحسنة بالظهور، فيصبح التعامل مع الخلافات واقعيًّا أكثر، وتزداد المقدرة على تجاهل الإساءات البسيطة وينصبّ التركيز والطاقة على مصدر الخلاف الرئيسي. وحينما يدور التركيز على حل الخلاف عندها سيكون من السهل إيجاد حلول عملية لها.

3. أفكار "زور" عن الخصم: في النزاع ﻧﺗﺫﻛﺭ الإساءة ﺑﺷﻛﻝ انتقائيّ، لأﻧﻪ يستحيل أﻥ ﻧﺳﺗﺭﺟﻊ ﻛﻝّ ﺍﻟﺣﻘﺎﺋﻖ. ﻭﻏﺎﻟﺑًا ﻣﺎ ﻧﺷﻭّﻩ ﺍﻟﺣﻘﻳﻘﺔ ﺑﺎﻟﻧﺯﺍﻉ، حيث ﻧﻘﺯّم ﺍﻟﺩﻭﺭ ﺍﻟﺫﻱ ﻧﻠﻌﺑﻪ ﻓﻲ ﺍلإﺳﺎءﺓ التي سبّبناها، وﻧﺑﺎﻟﻎ ﻓﻲ حجم ﺍﻟﻣﻌﺎﻧﺎﺓ ﺍﻟﺗﻲ ﺃﻟﺣﻘﺕ ﺑﻧﺎ. نظرًا ﻷﻥ ﻗﺩﺭﺗﻧﺎ ﻋﻠﻰ التذكر الصادق والصحيح للاساءة محدود لأننا نتذكر دائمًا بشكل جزئيّ، ولا نملك سيطرة كاملة على ذاكرتنا، يجب أن يكون هدفنا هو التذكر بصدق قدر الإمكان. ﺃﻥ ﺍﻻﺧﺗﻳﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﺗﻲ نتخذها ﻓﻲ ﺗﺫﻛﺭ الاساءة عندها القدرة على انهاء النزاع او تصعيده. ﺇﻥ ﺳﺭﺩ ﺭﻭﺍﻳﺗﻧﺎ ﺑﺻﺩﻕ ﻭﺃﻣﺎﻧﺔ ﻟﻪ ﺃﻫﻣﻳﺔ ﻛﺑﻳﺭﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻧﺯﺍﻉ ﻭﻫﻭ ﺷﺭﻁ  هام ﻟﺣﺩﻭﺙ ﺍﻟﻣﺻﺎﻟﺣﺔ. ﺍﻹﻟﺗﺯﺍﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺗﺫﻛﺭ ﺍﻟﺻﺎﺩﻕ ﻫﻭ ﻓﻲ ﺟﺫﺭﻩ ﺇﻟﺗﺯﺍﻡ ﻓﻲ ﻣﻌﺎﻣﻠﺔ ﺍﻵﺧﺭﻳﻥ ﺑﻁﺭﻳﻘﺔ ﻋﺎﺩﻟﺔ .ﻟﺫﻟﻙ ﻓﺈﻥ ﻛﻝ تذكر ﻏﻳﺭ صادق للاساءة ﻫو تذكر ﻅﺎﻟم. ﻋﻧﺩﻣﺎ ﻧﺻﺭ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻧﺎ ﺃﺻﺣﺎﺏ ﺍﻟﺣﻘﻳﻘﺔ ﻻ ﻧﺳﺗﻁﻳﻊ أﻥ ﻧﻛﻭﻥ ﻧﺎﻗﺩﻳﻥ ﻟﺫﻭﺍﺗﻧﺎ. لكن عندﻣﺎ ﻧﺳﻌﻰ ﻭﺭﺍء ﺍﻟﺣﻘﻳﻘﺔ ﻧﺳﺗﻁﻳﻊ ﺃﻥ ﻧﺭﻯ ﺍلأﻣﻭﺭ ﻣﻥ ﻭﺟﻬﺔ ﻧﻅﺭ الطرف ﺍﻻﺧﺭ. التذكر غير الصادق هو اعتداء على الوصية "لا تشهد بالزور". 

4. "استجواب" أو مواجهه الخصم بهدف الإدانة: يدعونا الرب أن نواجه بمحبة؛ أن نساعد خصمنا ليرى كيف ساهم هو في النزاع من خلال المواجهة سرًّا وليس علنًا، مواجهة بدافع المحبة وليس الانتقام، مواجهة بهدف ترميم العلاقة وليس إنهائها، مواجهة بهدف الإرشاد وليس اللوم والإدانة ("إِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ" -متى15:18). لكن لننتبه أنّه قبل المواجهه علينا أن "نخرج أولًا الخشبة من أعيننا وحينئذ نبصر جيدًا أن نخرج القذى من عين أخينا" (متى 7: 3-5). كيف؟ أن نكون صادقين بشأن الخطية (أمثال 28 : 13)، أن نلجم ألسنتنا (يعقوب 3 : 5 –6)، أن نلتزم بمسؤوليتنا، أن نحترم السلطات، أن نعترف بالدوافع الخاطئة، أن نمتحن ردود أفعالنا ومواقفنا ونفهم كيف ساهمنا في النزاع، ثم نعترف بأخطائنا ونطلب المسامحة. وفقط عندها يكون لنا الحق في مواجهة إخوتنا.

في النزاع، نادرًا ما نقرّ بأخطائنا، فإننا نميل الى إخفائها او إنكارها أو تبريرها! وأحياناً نتجنب المسؤولية، فنميل الى إلقاء اللوم على الآخرين. كما أننا نميل الى التركيز على صفات خصمنا السلبية، وﻧﻘﺯّم من مساهمتنا ﻓﻲ ﺍلإﺳﺎءﺓ بينما ﻧﺑﺎﻟﻎ ﻓﻲ إبراز مساهمة الطرف الآخر، وعندما نواجهه نميل الى اللوم والإدانة. 

يعلّمنا الكتاب المقدس أن ننظر للنزاع كفرصة لتمجيد الله وخدمة الآخرين والنمو الروحي. إن تركيزنا على تمجيد الله يظهر محبتنا وإطاعتنا له، لكنه أيضًا يحمينا من اتخاذ قرارات أنانية وطائشة من شأنها أن تؤدّي إلى تفاقم الخلافات. يتطلب صنع السلام أن نواجه مواقفنا وأخطاءنا قبل أن نشير إلى أخطاء الآخرين. في بعض الأحيان يتطلّب منا صنع السلام أن نقوم بمواجهة بنّاءة مع الطرف الآخر إذا رفض تحمّل مسؤولية أعماله. وأخيراً يتطلب منا صنع السلام التزامًا بالغفران وشفاء العلاقات المجروحة والوصول الى حل عادل ومرضٍ للطرفين.

 

د. رلى خوري منصور هي مديرة دراسات السلام في كلية الناصرة الإنجيلية

 

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع