• ما موقف المسيحي من اليهود في إسرائيل؟ القس الدكتور حنا كتناشو
ما موقف المسيحي من اليهود في إسرائيل؟ القس الدكتور حنا كتناشو

هذه العظة من رومية 9-11 قدمها القس الدكتور حنا كتناشو في الكنيسة المعمدانية المحلية في الناصرة في 9 حزيران 2019. عنوان العظة: ما موقف المسيحي من اليهود في إسرائيل؟

 

المقدمة

لقد صارعت الكنيسةُ عبرَ العصورِ في تحديد موقفِها من اليهود. تارةً رفعوا من شأنهم وتوراً قللوا من هذا الشأن. تارةً قتل اليهودُ أتباعَ المسيح كما حصل في القرن الأول وتوراً قتل المسيحيون اليهودَ كما حصل في العديد من الأماكن في أوروبا. وأتهم بعضُ المسيحيين اليهودَ أنهم رفضوا المسيح وقتلوه فبـرروا تعذيبَهم. وانعكست العلاقاتُ المسيحية – اليهودية عبـر التاريخ على مفهومنا للعهد القديم وليهودية العهد الجديد ولخطة الله لآخر الأيام. للأسف، رفض بعض المسيحيين الفلسطينيين في إسرائيل أجزاء من العهد القديم بسبب الحروب المعاصرة وصعوبة تفسير بعض نصوص العهد القديم.(1) وكان هذا الأمر موضوعَ حواري مع أحد قادة الفكر اللاهوتي في مجتمعنا الفلسطيني في إسرائيل بعد أن أصدر كتابا حديثا يروج فيه هذا الرفض.(2) ولقد أكدت وحيَ العهد القديم كله. على أي حال، تنوعت الردود المسيحية على موقف المسيحي من اليهودي بين مؤيد ومعارض وصامت ومناضل ومدافع ومهاجم. وتأثرت بلادنا بهذه الموجات. وتألم الكثيـرون وسُفكت الدماء باسم الله والوطن والأسفار المقدسة والمواقف الكثيرة.

ليس همـي اليوم تبرير موقف هذا أو ذاك أو إدانة موقف هذا أو ذاك. ولكن الكنيسة الفلسطينية في إسرائيل تحتاج أن تطلب وجه الله وتعرف موقفها وإرساليتها للشعب الذي تسكن في وسطه. فنحن نعيش في إسرائيل حيث يوجد ملايين اليهود وملايين الفلسطينيين المسلمين وغيـر المسلمين من حولنا. بعض الاحصائيات تُظهر أن عدد اليهود بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط هي قرابة 6.5 - 7 مليون إنسان وعدد الفلسطينيين هو أيضا قرابة 6.5 - 7 مليون إنسان (2 مليون في غزة، 3 مليون في الضفة 2 مليون في إسرائيل). ربما تكون الأعداد تقريبية ولكننا نعيش وسط 13-14 مليون إنسان يطلب الله دماءهم من أيدينا (حز 3: 18-20). ولا شك أن إرادة الله لنا أن نقدم ونجسّد المسيح لكل من حولنا سواء أكان مسلما أم يهوديا أم غيـر ذلك. فلقد أحب الله الجميع دون استثناء. وتقديم المسيح هو أكثر من مجرد مشاركة معلومات عن الخلاص إذ يشمل تجسيد محبته وعدالته ورؤيته من خلال الكنيسة والمؤسسات المسيحية وبرامجها واهتماماتها وخدماتها ومواقفها. فنحن رسالة الله للفلسطيني واليهودي دون استثناء. يقول الرسول بولس عن مسيحيي كورنثوس: أنتم رسالتنا . . . معروفة ومقروءة من جميع الناس (2 كو 3: 2). نحن رسالةٌ مكتوبةٌ لا بحبـر بل بروح الله الحي (2 كو 3: 3). علينا أن نفحص قلوبنا ومواقفنا أن كنا فعلا كأفراد وكعائلات وككنيسة رسالة الروح الحـي أم الروح الميت، رسالة كنيسة روحية حيث تسكن المحبة أم كنيسة جسدية حيث الحسد والخصام والانشقاق (1 كور 3: 1-4).

               وعندما يفكر الكثيـرون من المسيحيين في العلاقات مع اليهود فإنهم يشددون على أهمية رومية 9-11. وهذا حق. فهذه الفصول الكتابية تُبـرز لنا حكمة إلهية عميقة. تبدأ ببكاء الرسول وتنتهي بتشديده على عمق غنى الله وحكمته وعلمه إذ يقول: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء" (رو 11: 33). ويعتبر المسيحيون بحق أن أي تفكير وخدمة تتعلق باليهود يجب أن تأخذ رومية 9-11 بعين الاعتبار. فعلينا دراسة هذا النص بروح الصلاة لتتحقق رؤية الله فينا.

فكيف لا نخدم اليهود وهم حولنا من كل صوب؟ وكيف لا نقدم لهم المسيح ونحن نعيش معهم وبينهم وصرنا أبناء بلد واحد نتكلم نفس اللغة ونسير بنفس الطرق ونشترك في الدراسة والعمل وفي بناء البلد الواحد. ولن أخوض في كلامي في القضايا السياسية ولكنني سأتحدث عن رؤية إيمانية لليهود والفلسطينيين في إسرائيل. فدعونا نقرأ النص المقدس في رومية 9 لنتحدث بهذا الأمر الحساس والمهم.

 

ألم من الآخر إلى ألم من اجل الآخر

               بعد هذه المقدمة سأتحدث عن ثلاث نقاط وجدتها في رومية 9-11. أولا، كيف نحوّل الألم من الآخر للألم من أجل الآخر؟ كيف نحوّل الألم الذي يسببه الآخر إلى ألم في سبيل مصلحة الآخر؟ لا شك أن كل واحد منا اختبـر الألم بطريقة ما. والمشكلة عندما يصبح ألمنا عظيما ولا ينقطع ولا يتوقف. وربما نتألم بسبب محدودياتنا وأمراضنا وخطايانا واخطاء الآخرين والعالم الساقط في الخطيئة والحروب والعنف والظلم والفشل في تحقيق مُراد الله. ولكن كيف نغيّر طريقة تألمنا من ألم مضر إلى ألم نافع؟ كيف نجعل تألمنا يخدم مشيئة الله ولا يربطنا بعقلية الضحية أو يقودنا إلى العناد وتخشب العقلية؟ أومن من كل قلبي أن كل إنسان تألم أو سيتألم. فلا مهرب من الألم في عالمنا وفي كنائسنا وفي علاقاتنا. وبعضنا يتذمر بسبب الألم وآخرون يرفضون الله أو نرفض بعضنا بعضا. ولكن بعضنا يتألم ويصلي ويتوب ويتواضع ويحب ويصبر ويرجو ويخدم ويؤمن أن آلام هذا الزمان لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا. ويسلم ألمه لله. لقد تألم الرسول بولس إذ قال "إن لي حزنا عظيما وألما في قلبي لا ينقطع". ألمه عظيم ومستمر. ولكنه لا يتحدث عن الألم الذي سببه اليهود حين جلدوه خمس مرات أربعين جلدة إلا واحدة (2 كور 11: 24) أو عن ألمه حين ضُرب بالعصي وسُجن ورُجم وغير ذلك. لقد ربط الرسول نفسه بالمسيح وربط مشاعره بالمسيح وربط أفكاره بالمسيح وربط موقفه بموقف المسيح. فصار مستعدا أن يخسر الحياة كما خسرها المسيح في سبيل أن يكسب الآخرين للمسيح. وهذا ما حصل ما استفانونس الذي عذبه الظالمون ولكنه عظّم المسيح وأدهشهم وتحدى أعمق قناعاتهم وهو يفارق الحياة. غيّـر وجود المسيح والاتحاد به معادلة الألم من ألم مضر إلى ألم من اجل الملكوت. ألم الملكوت لن يضيع أجره. إنه خطة الله في امتداد بر الله. إنه الخطوة التي تسبق النهضة. إنه الصليب قبل القيامة. إنه طريق استفانوس للتأثير على قلب شاول الذي صار لاحقا رسول الأمم وأداة الله لنهضات كثيرة.

               ونرى هذا النوع من التوجه في الموعظة على الجبل. فإن لطمك أحد على خدك الإيمن حوّل له الآخر أيضا. وقد يكون هذا الشخص من كنيستك ومن الدوائرة القريبة عليك. وبين اللطمة الأولى واحتمال اللطمة الثانية حصلت معجزة المحبة في قلب المظلوم والمتألم. لقد صار مستعدا أن يتألم في سبيل امتداد ملكوت الله وتقديم المسيح. فعرض الوجه الآخر ليس عن ضعف بل بشجاعة المحبة المتألمة. وحصل نفس الأمر عندما خاصموه وظلموه وعندما فرضوا عليه ما لا يريد واستغلوه. لكنه صمم أن يُحب عندما يصبح الحُبُ مؤلما. وصمم أن يُحب عندما يصبح الحُب مُكلفا. فهذا النوع من الحُب هو حب الصليب الذي يلد حياة القيامة في الفرد والكنيسة والمجتمع ويكون ثمره أبديا. لقد تألم الفلسطينيون واليهود من بعضهم بعضا وليس هدفي أن أظهر من الظالم ومن المظلوم ولكن ماذا سنفعل بألمنا؟ يدعونا الله أن نضع هذا الألم في قبضة يده ليقدسه بدوافع جديدة ويزيل منه كل مرارة ويملئه بالحب. ويجعله متجذرا في الصدق وفي المسيح وفي الروح وفي الضمير المستريح وفي السعي بكل القلب إلى تقريب الآخر من المسيح وفضائل المحبة والعدالة والسلام والحكمة والنعمة والبركة. ففي ألمك أعط الآخر فرصةً أن يختبـر نعمة الله وبركته. وفي ألمك أعط الآخر فرصةً أن يرى محبة الله وغنى لطفه. وفي ألمك اعط الآخر أن يختبـر وداعةَ التمسك بالحق والعدل. وفي ألمك اظهر الغفران وشجاعة الإيمان. ليكن ألمك للبركة وليس لهدم مملكة المسيح. ليكن ألمك لحظة ربانية تُزرع فيها بذار الملكوت فتثمر اللحظة ثمرا أبديا. نعم، علينا أن نحوّل ألمنا إلى صلاة من أجل اليهود والمسلمين وإلى خطة لتقديم المحبة والعدل والسلام لنا جميعا. فماذا نفعل؟ سأقدم الآن النقطة الثانية التي يقدمها لنا رسول الأمم اليهودي في رومية 9-11.

 

إعادة سرد القصة

ثانيا، يرشدنا الرسول بولس إلى إعادة قراءة التاريخ والقصة التي مررنا بها. وأدب إعادة سرد العهد القديم أدب منتشر في الكتاب المقدس. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أعاد الشهيد استفانوس سرد تاريخ الشعب القديم في عظة مسيحية معاصرة لزمنه (أع 7: 1-53). وأعاد كاتب سفر العبرانيين السرد ليُبـرز الإيمان ويربطه بالمسيح وشعبه (عب 11: 1 – 12: 3). وعندما يعيد الرسول بولس سرد قصة الشعب القديم فإنه لا يسرد قصة الألم والعذاب كما فعل استفانوس ولا يذكر قصص العذاب التي عاناها ولكنه يتحدث عن القاعدة المشتركة فيدعو إسرائيل الإثني بإخوته وانسبائه. وربما علينا أن نبدأ بإعادة رواية قصتنا وقصص شعبنا بجعل الآخر شريكا بدلا من كونه عدوا. وهذا ما فعله السيد المسيح في قصة السامري الصالح عندما كسر العداوة بإبراز بطولة الرحمة والمحبة عند الآخر. وهكذا أعاد كتابة التاريخ بسرد ما اهمله اصحاب عقلية الحرب. ويبـرز الرسول في سرد تاريخ الشعب التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد والآباء ثم يربط كل هذا التاريخ بالمسيح. وهكذا بالرغم من الكثير من الفشل أبرز كل ما هو حسن وربطه بالمسيح. فإين كان الله وأين كان المسيح زمن النكبة؟ وأين المسيح منذ كثـرت الحروب وتكاثرت الكراهية؟ وأين الله في الثقافة الفلسطينية أو الإسلامية وعند اليهود. لنبحث عنه ونبرزه في القصة.

               نحتاج أن نعيد كتابة التاريخ من منظور المحبة لليهودي والفلسطيني. نحتاج أن نعيد رواية التاريخ لابراز شخصيات مثل أيوب ولموئيل ملك مسا العربي. ويوحنا المعمدان النبي اليهودي الذي خسر رأسه وهو يدافع عن امرأة عربية، بنت الحارث وزوجه هيـرودس انتيباس الذي اراد زوجة أخيه. نحتاج أن نعيد كتابة تاريخ الكنيسة لنُبـرز صنع السلام والمحبة المضحية والعيش المشترك الذي هو أكثر بكثيـر من التعايش. فماذا فعل الرسول ليأخذنا إلى هذا الاتجاه. سأتحدث الآن عن النقطة الثالثة وهي يجب أن نجعل المسيح بداية القصة ونهايتها. علاقتي مع المسيح تشكل كل علاقة أخرى وتحدد كل هدف من كل علاقة. فالنقطة الثالثة هي المسيح ثم المسيح ثم المسيح.

 

المسيح ثم المسيح ثم المسيح

               ثالثا، يتحول قلب الرسول من الحزن إلى المسرة. ومن ألم إلى فرح. ويحدث ذلك عندما يتأمل في الخلاص. فدعونا ننظر إلى هذا النص المبارك.  "إيها الأخوة إن مسرة قلبي وطلبتي إلى الله لأجل إسرائيل هي للخلاص" (رو 10: 1). ويؤكد النص أن غاية الناموس هي المسيح. فإن أردنا بناء توجه صادق وصحيح مع المسلم واليهودي والمسيحي في بلادنا، يجب أن تكون غايتنا المسيح، مسيح المحبة والعدالة ورئيس السلام، مسيح البـر لكل من يؤمن بمساواة كاملة، مسيح التواضع والاصغاء قبل الكلام.

               لقد تصارع الرسول مع فئات ظنت أن أعمال الناموس من ختان وشرائع هي طريق الحياة. ولكن بولس يؤكد لنا أن طريق الحياة والسلام والعدل تمر بالمسيح. الراحة الفردية والمجتمعية والسياسية تمر بالمسيح. فباعترافنا بربوبيته على قلوبنا وكنيستنا وإعلان هذه الربوبية على شوارعنا وأعمالنا. فشارعنا للمسيح وبناياتنا للمسيح وألسنتنا للمسيح وقهوتنا للمسيح. شبابنا وأطفالنا للمسيح. شيوخنا وشيخاتنا للمسيح. دراستنا وعملنا للمسيح. فلنتصرف وكأنها حقا للمسيح. هو الذي نزل من السماء وصعد من الهاوية ليعلن الإنجيل. فالإنجيل هو جواب الله لمشاكل البشرية وللصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وللصراعات الدينية. الإنجيل هو الطريق إلى ختان القلب وتغيّـر البواطن. فإن اعترفنا بفمنا وآمنا بقلبنا خلصنا. توافق الفم والقلب هو توافق النوايا والكلام والتعبير. الإنجيل سيقودنا إلى حلم المساواة لأن ربا واحد للجميع وكل من يدعو باسم الرب يخلص. إذا مسؤوليتنا نحو اليهودي والمسلم أن نقدم الإنجيل. طريقنا إلى التأثير هو التمسك بالإنجيل. وليس هو إنجيل الهجرة من الأرض إلى السماء بل الإنجيل الذي به يأتي ملكوت الله على الأرض كما في السماء. هذا الإنجيل هو أفضل تعبير عن الإيمان الصادق والمواطنة الصالحة والأمل في بناء مستقبل بدون دماء لأولادنا وأحفادنا.

 

الخاتمة

في الختام، يجب أن نستعد ككنيسة فلسطينية أو عربية في إسرائيل أن نحول ألمنا إلى ألم من اجل خلاص الآخر فنسعى إلى بركة الآخر. البركة هي في معرفة الله ومحبته وعدالته وبره وطاعته. ويجب علينا أن نساعد كل من حولنا على إعادة رواية القصة بطريقة تُظهر المسيح وتقود إليه. فكل عهود العهد القديم سواء أكانت مع آدم أو نوح أو إبراهيم أو موسى أو داود أو العهد الجديد في ارميا تقود إلى المسيح.

فإن كنت متألما، ادعوك اليوم أن تُسلم ألمك للمسيح ليحوله للبركة لك ولمن يسبب الألم لك. وادعوك اليوم أن تعيد رواية القصة فيتمجد المسيح من السرد. وبدلا من سرد القصة لتبرير الذات وإدانة الآخر لنُبـرز بسردنا محبته وغفرانه وغنـى لطفه وعدله والفرصة الإلهية للتوبة والتواضع والنمو في القداسة وامتداد البركة من خلالنا وسط نار الألم. وادعوك أن تتحد بالمسيح في العواطف والفكر والسلوك وتعلنه ربا للفم وللقلب ولكل الحياة.

 

 

[1]Naim Ateek, A Palestinian Theology of Liberation (Kindle Edition; New York: Orbis, 2017), loc 850.

[2]Yohanna Katanacho, Review of A Palestinian Theology of Liberation, by Naim Ateek, ComeandSee (2018); online http://www.comeandsee.com/view.php?sid=1343.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع