• من الاضطهاد للرخاء - الكنيسة بين الماضي والمستقبل - القس عازر عجاج
من الاضطهاد للرخاء - الكنيسة بين الماضي والمستقبل - القس عازر عجاج

يظن الكثيرون خطأً أن قسطنطين كان الامبراطور الذي حوّل ديانة الدولة الرومانية الوثنية الى الديانة المسيحية. فما قام به قسطنطين سنة 313م لم يكن إعلان مسيحيّة الامبراطوريّة الرومانيّة، لكن اصدار ما عُرف بالتاريخ باسم "مرسوم ميلانو"، الذي أعطى حرية العبادة لمواطني الامبراطورية، وبذلك أنهى فترة اضطهاد، عانت فيها الكنيسة لمدّة دامت ما يقارب الثّلاثة قرون. أما الادّعاء بأن الإمبراطور أصبح مسيحيًا، فقد أثار الكثير من الجدل لدى المؤرّخين، وحتى النتائج التي توصلوا لها كانت متضاربة. ويمكن تلخيص أسباب هذا الجدل بما يلي:

أولاً، لم يتخلَّ قسطنطين عن عبادته لإله الشمس. ثانيًا، احتفظ برموز هذا الإله على العملات النقدية جنبًا إلى جنب مع شعار المسيحية. ثالثًا، لم يعتمد إلا وهو على فراش الموت سنة 337م. رابعًا، علينا أن نتذكّر أيضًاً أنه كان حاكم لإمبراطوريّة وثنية في أساسها، فاحتفظ بمنصب Pontifex Maximus أي رئيس كهنة دين الدولة.

وباختصار جمع قسطنطين بين مذهبين متباينين، فنتج لديه نوع من الخليط بين المسيحية وعبادة الشمس. على أنه لا جدل أن قسطنطين كان يعتبر نفسه مسيحيًا، ونجد هذا الأمر في الكثير من أقواله وأعماله، فقد قال في أحد المناسبات موجّهًا كلامه لجماعة من الأساقفة: "أنتم عُيّنتم أساقفة لشؤون الكنيسة الداخلية، وقد تعيّنت أنا أسقفًا من الله لشؤونها الخارجية". وقد قام قسطنطين خلال سنوات قليلة من بداية حكمه بعدة أمور يدعم بها المسيحية:

فأعاد للكنيسة الأملاك التي صودرت منها خلال فترات الاضطهاد المختلفة. كما وخَصّص دعمًا حكوميًا للكنيسة. ووهب للمسيحيين احترامهم فأصبحوا يُختارون للمراكز الحكومية المرموقة بعد أن كانوا يُحسبون كأعداء الجنس البشري. كما وشجعت الحكومة عملية نسخ الأسفار المقدسة، ونتج عن هذا الأمر أثمن مخطوطات الكتاب المقدس مثل المخطوطة الفاتيكانيّة، والمخطوطة السينائيّة، التي وجدت في دير سانتا كاترينا على جبل سيناء. وتم تشييد الكثير من الكنائس المشهورة مثل كنيسة المهد في بيت لحم، وكنيسة القيامة في القدس، وكنيسة القديس بطرس في روما وكنيسة الرسول بولس في روما.

سار أبناء قسطنطين على نهج أبيهم، لا بل فاقوه في معاملتهم الحسنة للمسيحية والمسيحيين، ولم يحافظوا على تسامح والدهم نحو الوثنية، فحرّموا تقديم الذبائح للأصنام والذهاب إلى الهياكل الوثنية. ولم يمر وقت طويل حتى أصبحت المسيحيّة دين الدولة الوحيد. وهنا يقف المؤرّخون على مفترق طرق مثير للكثير من الجدل والنقاش، هل أدّى الاعتراف بالمسيحيّة كدين الدولة الرسمي الى اضعاف الكنيسة أم كان سبب في تقويتها؟

لا يوجد جواب حاسم وواضح على هذه السؤال، لكن يمكننا أن نستعرض بعض الأمور السلبية وأخرى إيجابية.

إيجابيًا، انتشرت الكنيسة انتشارًا واسعًا يفوق كل مدّة انتشارها في القرون الثلاثة الأولى. كما وساعدت المسيحيّة في رفع المستوى الأخلاقي للإمبرطوريّة الرومانيّة، وكان لها تأثيرًا كبيرًا على الحياة الاجتماعيّة، فتزايد الاعتراف بمكانة المرأة، وأوُقفت عروض المصارعات الدموية، كما وأصبح للعبيد مكانة ومعاملة أفضل من ذي قبل. وكان تأثير المسيحيّة واضح على التشريع، فتأثّرت قوانين الامبراطوريّة بالروح المسيحيّة.

 

أما من الناحية السلبيّة، فقد أدى الارتباط الوثيق بين الدولة والكنيسة إلى تدخل الدولة في شؤون الكنيسة الروحيّة واللاهوتيّة. كما وزاد دخل الكنيسة بصورة ملحوظة، وذلك من خلال الأموال المخصّصة لها من الدولة، ومن تقدمات المؤمنينً، واستخدمت هذه الأموال أحيانًا بصورة لا تعود بالفخر على الكنيسة. أضف إلى ذلك، انضمام الكثيرين إلى المسيحيّة ليس كنتيجة الإيمان بل لأن هذا الأمر أصبح الأمر الرسمي في الدولة. فاعتمد الكثيرون دون أن يكون لديهم إلا معرفة سطحيّة عن الكنيسة، وعن معنى الايمان المسيحي الحقيقي. فمثلاً كان الناس قبل إصدار مرسوم ميلانو لا يُقبِلون إلى المسيحيّة إلا إذا كانوا من المؤمنين المقتنعين أن المسيح هو ابن الله مخلصهم الوحيد، متحدّين بذلك الموت من أجل إيمانهم. أما بعد الاعتراف الرسمي بالمسيحيّة وإعطاء المسيحيين حقوق متميّزة، صار دخول الكثيرين إلى المسيحيّة طمعًا في الحصول على الوظائف العالية في الدولة، وليس من منطلق إيماني حقيقي. ومن ناحية أخرى، ولمقابلة حاجات هذه الأعداد الكبيرة من معتنقي المسيحيّة، تعيّن رجال دين دون أن تكون لديهم المعرفة الكافية ولا الدعوة الصادقة للقيام بهذه الخدمة.

 

ماذا مع الكنيسة اليوم؟

بناء على ما سبق يؤكّد البعض أن التاريخ يعلّمنا أن الاضطهاد هو أمر إيجابي وبركة للكنيسة، ويتكلم بـ"رومانسيّة" عن تلك الفترات "المجيدة" للكنيسة، راجيًا أن تعود تلك الأزمنة، أملاً أن هذا ما سيعيد الإيمان لقلوب الكثيرين، ويملأ كنائسنا من جديد. أختلف من ناحيتي مع من يحمل هذا الرأي والتوجه، فبغض النظر إن كان الاضطهاد قد عاد بالبركة على الكنيسة أم لا، لكن المسيحيون لم يسعوا في القرون الاولى وراءه، بل انصبّ جُلّ اهتمامهم وتكريسهم للعيش كما يحق لانجيل المسيح. فلم يكن هدفهم خلق توتر مع أي جهة كانت، سواء كانت دينيّة أم سياسيّة، لكن عندما كان الأمر يتعلّق بالاختيار بين طاعة الله أو الناس، كان موقف الكنيسة واضحًا "ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس" (أعمال الرسل 29:5). وهذا ما جلب عليها الضيق أحيانًا ليست بقليلة. وبذلك أظهرت أنها مستعدة لدفع ثمن مبادئها وإيمانها حتى لو كان باهظًا.

ونحن اليوم يجب أن نحذو حذو الكنيسة الاولى، نحن غير مطالبين بأن نصلي من أجل الضيق والاضطهاد، وسنكون مخطئين إن فعلنا ذلك، فكلمة الله تطلب بكل وضوح "أن تقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب، لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار." (تيموثاوس الثانية 1:2-2). قد يتمجّد الله في أوقات الرخاء وفي أوقات الشدة، فليس هذا هو السؤال، لكن السؤال إن كانت الكنيسة (وأعني بالطبع هنا جماعة المؤمنين) على استعداد أن تعيش بأمانة والتزام، وأن تكون حاضرة لدفع ثمن التزامها هذا، بدون مساومة وتراخٍ؟ فإن كنّا لا نستطيع أن نعيش حياة الالتزام والطاعة لله في أوقات الرخاء، فكيف سنقوم بذلك في أوقات الضيق؟

لقد تعبنا في شرقنا هذا من الضيق والاضطهاد والشدة التي واجهناها لقرونٍ طويلة، وصلاتنا أن يرسل الله سلامه على بلادنا عامة وعلى كنيسته خاصة ويقودها من خلال أعضائها لتُعلن محبته وخلاصه للجميع، وتكون صوته النبوي في عالم قد وضع في الشرير.

هذا المقال وكل المقالات التي تنشر في موقع "تعال وانظر" هي على مسؤولية كاتبيها ولا تمثل بالضرورة رأي هيئة التحرير في الموقع