مشاركة فيديوهات ومقالات بالعربية

مقال بعنوان: أنا الطفل القتيل - سميح غنادري

0.00 - (0 تقييمات)
نشرت
714
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

مقال بعنوان: أنا الطفل القتيل - سميح غنادري

 

تعجز اللغة الإنسانية عن إيجاد تسمية ووصف لاقتحام غرف نوم لبيت عائلة وذبحها وأبنائها بالسكاكين وهم نيام، بمن فيهم رضيعة ابنة ثلاثة أشهر. هذا ما حدث في مستوطنة "إيتمار" يوم 13 آذار.

بماذا ننعت هذه العملية؟ جريمة، مذبحة، عمل شيطاني ومزعزع ومرعب ينمّ عن أخلاقية معطوبة ومثيرة للتقزز؟ حتى اللغة العربية، الأغنى بمفرداتها وبأوصافها، تقف عاجزة عن تشخيص لغوي إنساني لهكذا فعل لا إنساني.

يقال إن الفاعل (أو الفاعلين) ابن بشر، إنسان. أعتقد أنه حدث عطب في تشخيص الفاعل، وإني لمتأكد أن آدم وحواء يتبرآن من أبوية وأمومة هكذا إنسان. رضيع الإنسانية لا يذبح رضيعة نائمة في مهد الرضاعة.

يقال إن الفاعل عربي فلسطيني. وإذا ما ثبت هذا، أعلن أنا المسكون بعروبتي وفلسطينيتي، براءتي من هكذا عربي فلسطيني، لا من العروبة وفلسطين. ولا أقول إني أخجل بعروبتي. وإنما أقول: يزداد اعتزازي بكرامتي القومية والوطنية إن تبرأ شعبي من هكذا عملية وأدانها بصوت مدوٍ وبدون تأتأة.

يقال إن هذه الجريمة وقعت في مستوطنة، وضد مستوطنين. أضيف: وعلى أرض محتلة، ونفـّذها ابن لشعب من المحتلين واللاجئين والمشردين، عقودا تلو عقود، دون أمل بأفق خلاص قريب. لكن ليس هكذا تتم مقاومة الاستيطان والاحتلال. وإنما هكذا نزيد على الاحتلال الغريب للوطن ولمصادرة أرضه وتشريد أهله، احتلالا ومصادرة وتشريدا ذاتيا، وطنيا لبشريتنا.

يقال إنه لم يتم بعد الكشف عن الهوية الشخصية للفاعل، فقد يكون ابنا لعائلة هـٌدم بيتها في غارة إسرائيلية، طائرة في مواجهة حجر. أو قتل بعض أفرادها أو تشوّهوا. أو يتعفنون في سجون إسرائيلية منذ عقود. أو جرت مصادرة أراضيهم وقلع أو تسميم مزروعاتهم، وسجنهم وراء جدار. وقد تكون أمه أجهضت وماتت قرب حاجز، أو والده وهو في طريقه طلبا للعلاج. وقد يكون له أطفال، بمن فيهم أطفال رضـّع، تمزقوا أشلاءً إثر إصابة بيتهم بصاروخ.

وقد، وقد، وقد. ولكن القتل هو القتل، هو القتل، هو القتل. وملعون، وملعون، ملعون هكذا انتقام يلغي إنسانية الضحية ويجعلها تتبنى وتذوّت ممارسات الجاني. ومدان، مدان، مدان، وباطل قانون الفيزياء الذي يقول إن لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار ومعاكسة له بالاتجاه، إذا ما جرى العمل وفقه في الحياة البشرية الاجتماعية. هنا يصبح الانتقام انتقاما من الذات، يكون أشبه (بل أسوأ) وأغبى من إطلاق المتسابق للرصاص على رجليه قبل خروجه للسباق.

نعم، الاحتلال هو الإرهاب. بل هو إرهاب رسمي ومشرّع على أيدي دولة بمؤسساتها وقوانينها. ولكن، كما أن النازية لا تقاوم بنازية، كذلك الإرهاب لا يقاوم بإرهاب. القضية الفلسطينية قضية عادلة، ولهذا فإنها تحتاج لوسائل عادلة للدفاع عنها ولحلها.

أريد أن أكون واضحا في إفهام كل من لم يفهم موقفي حتى الآن، وأريد المزيد من استفزاز من لم تستفزه كلماتي بعد: صحيح أن عملية إيتمار، وما يشبهها من عمليات، لا تخدم القضية الفلسطينية، بل تضرها. وصحيح أنها تخدم في نهاية المطاف الموقف الإسرائيلي الرسمي والشعبوي، وخصوصا اليمين المتطرف والاستيطاني.  داخليا وخارجيا. لكني ليس لهذا أدين هكذا عملية. بل أستمر بإدانتها ونبذها حتى لو خدمت ،جدلاً، القضية. وأدينها إنسانيا، دفاعا عن إنسانية شعبي وقضيته وعن الإنسان في الآخر – بمن فيهم الخصم.

وإذا كانت هكذا هي المقاومة، فأنا ضد المقاومة. وإذا كان هذا هو الإسلام والجهاد، فأنا ضد الإسلام والجهاد. لكنها ليست هذا ولا تلك، وإنما هي عملية إرهابية ضد الإسلام والجهاد والحق وضد المقاومة. فالذي يذبح عائلة بالسكين وهي نائمة ليس بمقاوم، ولا بمسلم. إنما هو قاتل، قاتل، قاتل.

يصلني، وأنا أكتب كلماتي هذه، صدى احتجاج وغضب بعضكم عليّ. وها أنا أدوّن كلمات احتجاجكم: أنت تصبّ جام غضبك على عملية إيتمار وتصمت عن جرائم إسرائيل الرسمية بحق شعبنا، وعن فلتان سائبة المستوطنين والمنظمات الإرهابية الصهيونية بحقنا. بل أنت لا تتطرق حتى لرد الفعل الإسرائيلي الطاغي رسميا وشعبويا، الداعي لاستغلال عملية إيتمار كرافعة للمزيد من الاستيطان والانتقام والقمع والقتل والهدم والحصار، ولمحاولة خطف وقتل أطفالنا. هذا عداك عن التحريض المنفلت ضد حتى السلطة الفلسطينية وأجهزة أمنها التي تتعاون مع إسرائيل للإمساك بمنفذي العملية، ومن ثم إغلاق الأفق أمام توقيع اتفاق سلام عادل ودائم.

أجيبكم: أستحلفكم الله، أن كفانا مزاودة. لقد قضى كاتب هذه السطور 35 عاما من حياته الناضجة حتى الآن، وما زال، عاملا وكاتبا دفاعا عن قضية شعبه العادلة، ودفع وما زال الثمن، مقابل هذا. لكني لا أكتب مقالي هذا لا للعبرانيين وصحفهم، ولا نفاقا أو مسايرة أو تقربا منهم راجيا وشاحذا لرضاهم. وإنما لشعبي أكتب مناشدا  أن كفانا تشويها لقضيتنا العادلة ولإنسانيتها.

لقد غسل الشباب المصري والتونسي، في ميدان وساحة التحرير، بإنسانيته وحضاريته وبفعله الجماعي الجماهيري وبديمقراطيته وباستعداده للتضحية دفاعا وانتصارا لقضية إنسانية عادلة، الصورة النمطية المشوهة للعربي. كما أنتجتها وخلفتها أنظمة القمع والفساد وأعداء هذه الأمة العريقة تاريخيا وحضاريا. فأية صورة تريدون أن توصلوا للأمم المتحدة في أيلول القادم، طالبين اعتراف 140 دولة بحق تقرير مصيركم في دولة مستقلة؟ صورة شباب ميدان التحرير أم صورة شاب يذبح بالسكين طفلة ابنة ثلاثة أشهر وهي نائمة في سرير الرضاعة؟

رحم الله الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي. لقد استفزه، قبل أكثر من ثلاثة عقود "غباء" قادة فلسطينيين سألتهم الصحافة العبرية عن رأيهم بقتل الأطفال، فأخذوا يتلعثمون ويبررون الأمر. فصرخ حبيبي في مقاله الأسبوعي، ومن ثم في عمله الأدبي "لكع بن لكع"، مسجلا إدانة لهذا "الغباء" في هكذا جواب على هكذا سؤال يصوّر الجاني ضحية والضحية جانيا.

كان جواب حبيبي يومها: "أنا الطفل القتيل"!   

714
مشاهدات
0
تعليق

ابلاغ Report

جاري التحميل